في لحظة مفصلية من فصول المأساة السودانية، تقف الخرطوم اليوم أمام محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قضائية في منظومة الأمم المتحدة، متهمةً دولة الإمارات العربية المتحدة بـ”التواطؤ في الإبادة الجماعية” من خلال دعمها المزعوم لقوات الدعم السريع.
هذه الدعوى التي تُنظر الخميس في لاهاي، تُنذر بإعادة خلط أوراق المعادلة الإقليمية، ليس فقط في السودان، بل في عموم منطقة القرن الإفريقي والخليج.
لكن، ما الذي دفع الخرطوم إلى هذه الخطوة غير المسبوقة؟ وهل نحن أمام تطور قضائي قد يفتح الباب أمام مساءلة دول عن دعمها لأطراف نزاع داخلي؟ أم أن الجدار القانوني للتحفّظات السيادية سيسقط الدعوى في مهدها؟
الإمارات في قفص الاتهام: دعم مباشر أم توظيف سياسي؟
تتّهم الحكومة السودانية، المدعومة من الجيش، دولة الإمارات بـ”خرق اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948″، من خلال دعم قوات الدعم السريع، والتي تُحمّلها الخرطوم مسؤولية ارتكاب فظائع واسعة النطاق:
-
إبادة جماعية وعمليات قتل ممنهجة.
-
اغتصاب جماعي وتهجير قسري.
-
تخريب ممتلكات عامة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وتقول الحكومة السودانية إنّ هذه الانتهاكات ما كانت لتُرتكب لولا ما تصفه بـ”الدعم المباشر” الذي وفرته أبوظبي لهذه القوات.
في المقابل، تنفي الإمارات بشكل قاطع هذه الاتهامات، وتصفها بأنها “ادعاءات لا أساس لها من الصحة، وتشكل إساءة لاستخدام وقت المحكمة”، وفق ما صرّح به مسؤول إماراتي كبير طلب عدم الكشف عن هويته.
❓ سؤال أساسي يفرض نفسه هنا:
هل يملك السودان ما يكفي من الأدلة الموثّقة لإثبات الصلة بين الدعم الإماراتي المفترض وجرائم الدعم السريع؟
أم أن هذه الدعوى تمثل ورقة ضغط سياسية في ظل صراع إقليمي متشابك يضم قوى كبرى من الشرق الأوسط إلى البحر الأحمر؟
معركة الاختصاص… هل تُغلق المحكمة الباب قبل أن تفتحه؟
أحد أبرز التحديات القانونية التي تواجه الدعوى يتمثل في قضية الاختصاص. فالإمارات، عند توقيعها اتفاقية الإبادة الجماعية في عام 2005، أبدت تحفظًا على المادة التاسعة، وهي المادة التي تمنح محكمة العدل الدولية صلاحية الفصل في النزاعات القانونية الناشئة عن الاتفاقية.
الخبير في القانون الدولي، مايكل بيكر من كلية ترينيتي في دبلن، كتب في مقال تحليلي أنّ هذا التحفظ قد يُمكّن المحكمة من رفض النظر في القضية من أساسها، ما لم تثبت الخرطوم أن التحفظ ذاته يتعارض مع روح الاتفاقية ومقاصدها.
السودان من جهته، يرى أن هذا التحفظ يتناقض مع البعد الأخلاقي والإنساني العالمي الذي تقوم عليه الاتفاقية، والتي تهدف إلى منع الجرائم ضد الإنسانية بغض النظر عن الاعتبارات السياسية أو السيادية.
❓ سؤال قانوني يظل عالقًا:
هل سيكون للقضاة الجرأة القانونية لكسر جدار التحفظات السيادية وتوسيع مفهوم المسؤولية الجماعية؟
أم أن النظام القانوني الدولي لا يزال رهينة ميثاقية الدول ومواقفها السياسية من الالتزامات الدولية؟
ما وراء السطور: رمزية دارفور ومأساة معلّقة
الملف لا يتعلق فقط بخلاف سوداني-إماراتي، بل يستدعي إلى الواجهة مأساة دارفور المتواصلة منذ عقدين، والتي عادت إلى المشهد الدولي مؤخراً مع الاتهامات المتكررة لقوات الدعم السريع بارتكاب جرائم تطهير عرقي في غرب البلاد، وسط صمت دولي مريب.
وللمفارقة، فإنّ الولايات المتحدة نفسها كانت قد اتّهمت قوات الدعم السريع بارتكاب “إبادة جماعية” في دارفور، وفرضت عقوبات على الجانبين: الجيش والدعم السريع على حد سواء.
❓ فهل تؤشر هذه الخطوة السودانية إلى محاولة لخلق حلف دولي جديد ضد الدعم السريع؟
وهل قد تعيد تحريك المياه الراكدة في ملف العدالة الانتقالية والمحاسبة الدولية في السودان؟
تداعيات محتملة: من لاهاي إلى الخرطوم… مرورًا بأبوظبي
بعيدًا عن فنيات المحاكمات، فإن هذه القضية تطرح عدة تداعيات دبلوماسية خطيرة:
-
قد تؤثر سلبًا على علاقات السودان المستقبلية مع دولة خليجية فاعلة مثل الإمارات.
-
تُحرج أطرافًا إقليمية ودولية متهمة بالصمت أو التواطؤ في مسار الصراع السوداني.
-
تفتح الباب أمام استخدام أدوات القانون الدولي في النزاعات الإقليمية، وهو سلاح يمكن أن يكون حادًّا إذا وُضع في سياق سياسي ممنهج.