ذات صلة

أحدث المقالات

إعدام في جنين… حين يتحوّل الميدان إلى مساحة معلّقة خارج القانون

لم يكن تصريح مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة...

إعدام في جنين… حين يتحوّل الميدان إلى مساحة معلّقة خارج القانون

لم يكن تصريح مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مجرّد بيانٍ دبلوماسي آخر، بل جاء أشبه بصرخةٍ مكتومة من داخل المؤسسة الدولية نفسها: صدمة، فزع، وإشارة صريحة إلى “إعدام خارج نطاق القانون”. عبارة ثقيلة في ميزان العلاقات الدولية، لكنها أصبحت شبه اعتيادية في توصيف ما يجري في الضفة الغربية، خصوصاً في جنين التي تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى مسرح مفتوح لانفلات القوة الإسرائيلية.

الواقعة الأخيرة ــ مقتل فلسطينيين اثنين برصاص الشرطة الإسرائيلية خلال مداهمة ــ كشفت، من جديد، عمق التحوّل الذي تعرفه إسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين: من منطق “الاشتباك” إلى منطق “التصفية”. لم يكن الرجلان، كما تُظهر اللقطات التي بثّتها تلفزة فلسطين، في وضعية تهديد. بلا سلاح، بلا مقاومة، وبلا أي معايير اشتباك عسكرية. ورغم ذلك، انتهت حياتهما بثوانٍ معدودة، تحت أعين الكاميرا، وفي ظل شعور واضح لدى المنفذين بأن لا محاسبة تنتظرهم.

1. ما وراء الحدث: انهيار تدريجي لمنظومة القانون الدولي

حين يصف المتحدث الأممي جيريمي لورانس الحادث بأنه “عملية إعدام خارج نطاق القضاء”، فهو يضع إصبعه على الجرح الحقيقي: لم يعد القانون الدولي في فلسطين إطاراً مُلزِماً، بل مجرّد لغة أخلاقية عاجزة. هذا النوع من الإدانة، رغم قوته اللفظية، يعكس عجز الأمم المتحدة أكثر مما يعكس قدرتها على التدخل. فالمشهد يتكرر منذ عقود، وكلّ مرة تبدو فيها المؤسسات الدولية كأنها تكتفي بدور المؤرّخ بدل دور الحامي.

2. السياق الاجتماعي: جيل يعيش يومياً في مساحة رمادية بين الحياة والموت

المشهد في جنين ليس حادثاً معزولاً. إنه خلاصة تراكمات اجتماعية عميقة: جيل شبابي فلسطيني يعيش بين جدران الحصار والبطالة والقمع المستمر، لا يرى الدولة إلا في مظهر القوة العارية.

في المقابل، جيل شبابي إسرائيلي يتشبع بخطابات اليمين المتطرف التي تشرعن العنف المسبق وتحوّل الفلسطيني إلى خطر وجودي لا إلى إنسان صاحب حقوق. هذا الاحتكاك اليومي بين مجتمعين يتحركان في اتجاهين متعاكسين يخلق بيئة خصبة لتكرار مثل هذه الإعدامات.

3. البعد السياسي: عسكرة القرار وتآكل فكرة “الحل السياسي”

منذ سنوات، تتراجع إسرائيل خطوة بعد أخرى نحو عسكرة التعامل مع الضفة الغربية. الحكومة الحالية ــ وهي الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل ــ أعادت تعريف مفهوم “الأمن” بحيث يشمل التفويض المسبق بالعنف المفرط.
ومع غياب أي أفق سياسي، يتعامل صانع القرار الإسرائيلي مع الضفة باعتبارها ملفاً أمنياً فقط.
وهكذا تنتقل المداهمات الليلية من أدوات للتوقيف إلى آليات للتصفية الميدانية.

4. صورة تُعيد طرح سؤال: مَن يملك رواية الحق؟

اللقطات التي أظهرت الرجلين في وضعية استسلام ليست مجرد دليل بصري، بل جزء من معركة أشمل: معركة الرواية. فالصور، منذ بدايات الصراع، كانت دائماً سلاحاً لا يقل قوة عن الرصاص.
وجود الكاميرا لم يعد يردع، بل أصبح شاهداً إضافياً على عالمٍ لم تعد فيه المشاهدة كافية لإيقاف القتل.

5. دلالات أممية: صدمة أم بداية تغيير؟

الصدمة التي عبّر عنها مكتب حقوق الإنسان تحمل بُعدَين متناقضين:

  • الأول: اعتراف دولي صريح بأن ما يحدث تجاوز كل الخطوط القانونية.

  • الثاني: اعتراف ضمني بفشل المؤسسات الدولية في حماية المدنيين.

وفي كلتا الحالتين، يبقى السؤال الأهم: هل يكفي توصيف الجريمة لإيقاف تكرارها؟ أم أن الصدمة أصبحت مجرد إجراء بروتوكولي آخر في سجلّ الصراع؟

الخلاصة التحليلية

ما حدث في جنين ليس حادثاً عابراً، بل جزء من تحوّل جذري في طبيعة التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين، يدفع المنطقة نحو مرحلة جديدة تتآكل فيها الحدود بين القانون والواقع، بين الأمن والعقاب، بين الدولة والمنظومة المسلحة.

إن الإعدام خارج القانون لم يعد مجرد مصطلح حقوقي، بل أصبح تعبيراً عما يعيشه الفلسطينيون يومياً: حياةٌ معلّقة على قرار آني لرجل يحمل سلاحاً، ويمارس سلطته في فضاء بلا محاسبة.

spot_imgspot_img