في لحظة تبدو فيها إفريقيا الغربية على صفيح ساخن من التحولات والانقلابات، يخرج المغرب بمبادرة بحجم القارة، تنقل ملف الهجرة والاندماج الإقليمي من مجرد معالجة أمنية أو إنسانية إلى رؤية إستراتيجية عابرة للحدود والجغرافيا التقليدية: فتح منفذ بحري لدول الساحل الإفريقي على المحيط الأطلسي عبر التراب المغربي.
لكن ما الذي يعنيه هذا المشروع؟ ولماذا الآن؟ ومن المستفيد؟ وهل نحن أمام تحول دبلوماسي واقتصادي هادئ لكن عميق في معادلات إفريقيا ما بعد “الإكواس” وما بعد فرنسا؟
مشروع أكبر من طريق: عندما تصبح الجغرافيا أداة دبلوماسية
حين طرح الملك محمد السادس مبادرته في خطاب رسمي عام 2023، لم يكن يتحدث فقط عن بنية تحتية، بل عن إعادة تموقع مغربي داخل إفريقيا، يرتكز على تقديم بدائل واقعية وحيوية لدول الساحل، بعد أن فشلت أدوات الهيمنة التقليدية، وتعثرت رهانات الغرب على العسكريين المحليين أو التدخلات المحدودة النجاعة.
يأتي المشروع في وقت حساس، تتراجع فيه فرنسا عن مواقعها الاستعمارية السابقة، بينما تبحث الدول المتضررة من العقوبات (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) عن شركاء جدد خارج المنظومة التقليدية. ويبدو أن الرباط قرأت التحولات الجيوسياسية بذكاء، وأدركت أن الفراغ لا يدوم، وأن من يقدم البنية التحتية، يكسب النفوذ طويل الأمد.
الجزائر… الحاضر الغائب في معادلة الأطلسي
من زاوية الجغرافيا، قد تبدو الجزائر أقرب إلى دول الساحل من المغرب، لكن في الواقع، تحوّلت إلى طرف متوتر في هذه المعادلة، بعد أن فقدت الكثير من أوراقها في مالي والنيجر، واندلعت معها خلافات حدودية وعسكرية مباشرة، كما في حالة الطائرة المسيّرة التي أسقطت في الشمال المالي.
في المقابل، استقبل الملك محمد السادس وزراء خارجية الدول الثلاث (مالي، النيجر، بوركينا) في الرباط في أبريل 2024، وهي إشارة دبلوماسية قوية إلى من يريد الاستماع: المغرب بات الفاعل الإفريقي المقبول إقليمياً، والموثوق دولياً.
الرباط ما بعد “برخان”: قراءة في فشل الآخرين
حين تتحدث الباحثة بياتريس ميزا من الجامعة الدولية للرباط عن فشل عملية “برخان” الفرنسية، فإنها لا تشير فقط إلى انسحاب باريس، بل إلى الفشل البنيوي لمنظومة التدخلات الأوروبية في إفريقيا. من هنا، يبرز المغرب كـ”جسر” ثلاثي: يربط أوروبا بإفريقيا من بوابة الأطلسي، ويمنح دول الساحل بديلاً عن الأبواب الموصدة في وجهها.
فهل تنجح الرباط في إقناع القوى الكبرى بتمويل هذا المشروع؟ فرنسا، أمريكا، ودول الخليج أعربت عن دعمها، لكن التمويل لا يكفي دون ضمانات أمنية، في منطقة لا تزال عرضة للتمردات والهجمات المسلحة.
من الداخلة إلى نيامي: ممر اقتصادي أم شريان سيادي؟
الطريق الذي سيربط المغرب بكل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو وموريتانيا، سيكلف حوالي مليار دولار. لكنه يتجاوز البعد اللوجستي. فهو يعيد طرح سؤال السيادة الاقتصادية لهذه الدول التي كانت حتى الأمس القريب رهينة لموانئ “الإكواس”، مثل بورتو نوفو والسنغال وساحل العاج.
من هنا، يصبح المشروع أيضا وسيلة لتحرير هذه البلدان من “الخنق الجيوسياسي”، وربطها بميناء الداخلة الأطلسي الجديد، الذي بلغت نسبة إنجازه 38%، ويفترض أن يكون جاهزًا في 2028، وهو ميناء سيحمل شعار: مغربٌ إفريقيٌّ في خدمة إفريقيا.
العقبات: من يملك الأرض؟ من يؤمن الطريق؟
حتى الآن، لا تزال بلدان التحالف الثلاثي تعاني من ضعف البنية التحتية، قلة المركبات، وهشاشة شبكات الطرق. كما أن تأمين الطريق وسط جماعات جهادية يتطلب تعاونًا أمنيًا غير تقليدي، يدمج الجيوش المحلية، والمبادرات المجتمعية، والدعم الاستخباراتي الإقليمي.
لكن التحدي الحقيقي ليس في الجغرافيا ولا في المال، بل في استمرارية الرؤية المغربية وتحصينها ضد التبدلات السياسية المفاجئة في المنطقة. فهل تملك الرباط “نَفَسًا طويلًا” يؤهلها للعب هذا الدور الجديد؟ وهل ستصمد إستراتيجيتها أمام منافسة قوى دولية وإقليمية بدأت تراقب بحذر؟
خلاصة: ما بعد “الطريق”… أي مستقبل لإفريقيا؟
المغرب اليوم لا يقترح طريقًا فقط، بل يضع تصورا جديدًا للعلاقات بين شمال إفريقيا وعمقها الجنوبي، يقوم على المصالح المتبادلة، والنقل، والتدريب، والتكامل، بدل منطق السيطرة والمعونات. إنها لحظة تاريخية تعيد فيها الرباط صياغة دورها، ليس كوسيط، بل كـ شريك ذكي وفاعل من داخل البيت الإفريقي.
لكن ما يظل معلقًا هو السؤال المركزي: هل سيكون المشروع رافعة حقيقية لتغيير موازين القوى؟ أم سيتحول بدوره إلى “حلم إقليمي كبير” اصطدم بالواقع الأمني والبيروقراطي؟