ذات صلة

أحدث المقالات

المركز السينمائي المغربي ينعش مهرجان طنجة: رؤية جديدة، لغات متعددة، ومخرجون شباب في الصدارة

"البحر البعيد".. حين تلتقي السينما المغربية بعمق الإنسان والبحر...

انطلاق الدورة الـ 11 لمؤتمر ومعرض المدن الذكية ICEC 2025 بالقاهرة

أعلنت شركة ROOT Technologies (رووت تكنولوجيز) الشركة المنظمة لمؤتمر...

يورجن شولتس يقدم أوراق اعتماده كممثل دائم لألمانيا لدى جامعة الدول العربية

  التقى يورجن شولتس، سفير جمهورية ألمانيا بالقاهرة، اليوم الأربعاء،...

المركز السينمائي المغربي ينعش مهرجان طنجة: رؤية جديدة، لغات متعددة، ومخرجون شباب في الصدارة

“البحر البعيد”.. حين تلتقي السينما المغربية بعمق الإنسان والبحر المفتوح

في طنجة، المدينة التي طالما كانت بوابة المغرب إلى العالم، احتضن قصر الفنون والثقافة لحظة اعترافٍ جماعية بقدرة السينما المغربية على تجديد ذاتها، حين تُوّج فيلم “البحر البعيد” للمخرج سعيد حميش بن العربي بالجائزة الكبرى للدورة الخامسة والعشرين من المهرجان الوطني للفيلم.

لكن ما حدث في طنجة لم يكن مجرد تتويج لفيلم، بل لحظة إحياءٍ لفكرة: أن السينما المغربية تستطيع أن تكون مرآة للمجتمع، وجسرًا بين الأجيال، وأن المهرجان الوطني للفيلم استعاد، هذه السنة، روحه التي كادت أن تخبو، بفضل إدارةٍ واعية للمركز السينمائي المغربي ورئيسه الذي أعاد للمؤسسة بريقها ووهجها المؤسسي والفني، مستندًا إلى طاقات شابة جمعت بين الحرفية والجرأة.

البحر كرمز للمنفى والبحث عن الذات

“البحر البعيد” ليس فقط قصة نور، الشاب الذي هاجر بطريقة غير نظامية إلى مرسيليا، بل هو أيضًا حكاية وطنية عن الانفصال والحنين، عن المسافة بين الحلم والمأوى.

الفيلم يشتغل على الهجرة لا بوصفها ظاهرة اجتماعية، بل كقدرٍ وجودي يمتحن إنسانية المهاجر بين فقد الجذور وسحر الحرية. فـ”نور”، وهو يتأرجح بين الانتماء والضياع، يمثل جيلًا بأكمله عاش على تخوم البحر المتوسط، يحلم بالعبور، ويكتشف أن المنفى لا يبدأ في البحر بل في الداخل — حين يفقد الإنسان توازنه بين ما يريد أن يكونه وما يُسمح له أن يكون.

الفيلم بذلك لا يروي، بل يفكّر بصريًا. إنه نص فلسفي بقدر ما هو عمل فني، يمارس على المتفرج فعل التساؤل: هل الهجرة خلاص أم هروب؟ هل الوطن هو المكان الذي نولد فيه أم المعنى الذي نحمله أينما ذهبنا؟ سعيد حميش بن العربي لا يقدّم أجوبة، بل يترك الكاميرا تفتح جراح الذاكرة على مدى عقدٍ من الزمن، من التسعينيات إلى الألفية، كأنها رحلة من زمن الهشاشة إلى زمن القلق المعولم.

نجاح مهرجان يواكب تحوّل المغرب الثقافي

أما المهرجان الوطني للفيلم في دورته الخامسة والعشرين، فقد تجاوز دوره التقليدي كمنصة للعرض والتتويج، ليصبح مرصدًا لتطور الوعي السينمائي المغربي.

نجاح هذه الدورة لم يكن صدفة؛ بل ثمرة رؤية متجددة للمركز السينمائي المغربي الذي أعاد للمهرجان انتظامه، وضخّ فيه دماء جديدة من طاقات نسائية ورجالية شابة أثبتت أن التسيير الثقافي ليس مجرد إدارة، بل فنّ في حد ذاته.

لقد بدا واضحًا أن هناك تحولًا في فلسفة التسيير السينمائي بالمغرب: من منطق المناسبات إلى منطق البناء الثقافي، ومن ثقافة الصورة المستوردة إلى ثقافة الصورة المغربية الواعية بذاتها وبتنوعها.

فالمهرجان، الذي جرى تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، جسّد هذا العام لحظة مصالحة بين الجمهور والنقد، بين الفن والسياسة الثقافية، بين ذاكرة السينما المغربية وآفاقها المستقبلية.

سياسة جديدة ولغة جديدة: المهرجان يتكلم بثلاث لغات

في جانبٍ فعّال من التنظيم والاحتراف المهني، برزت شراكة فكرية وإعلامية نوعية مع مجلة “الدبلوماسية”، التي ساهمت في نقل الحدث إلى العالم برؤية تحليلية تجاوزت الخبر إلى الفكر، وباللغة التي يفهمها الجميع: الإنجليزية، تليها العربية والفرنسية.

لقد أدركت الإدارة الجديدة للمركز السينمائي المغربي أن المهرجان الوطني للفيلم لا يمكن أن يظل حبيس الثنائية اللغوية التقليدية التي رافقته لعقود، بل يجب أن ينفتح على لغة العالم، اللغة الإنجليزية، بوصفها لغة السينما والصناعة والتواصل الدولي.

وهذا القرار لم يكن مجرّد إضافة لغوية شكلية، بل تحوّل استراتيجي في الرؤية الثقافية للمركز، يعكس وعيًا عميقًا بأن جمهور السينما المغربية لم يعد محليًا فقط، وأن أغلب المشاركين والنقاد والموزعين باتوا ينتمون إلى الفضاء الأنغلوفوني.

إن إدخال هذه اللغة الثالثة أعاد للمهرجان ذوقًا خاصًا وطابعًا كونيًا لا مثيل له في المغرب وشمال إفريقيا، مؤكّدًا أن الإدارة الحالية تمتلك رؤية شمولية منفتحة على العالم، متحرّرة من ضيق الثنائية القديمة التي اقتصرت لسنوات على العربية والفرنسية.

ومن الملاحظ أن هذا الانفتاح اللغوي ترافق مع حيوية شبابية واضحة، حيث أن أغلب الأفلام المتوجة كانت لمخرجين شباب، وهو ما يظهر جليًا في مقاطع الفيديو المرفقة لهذا المقال، التي توثّق كيف أصبحت السينما المغربية تتحدث بلغة جديدة… لغة الصورة والعالم.

أجيال السينما المغربية: بين التنافس والتكامل

من الملاحظ أن دورة طنجة جمعت طيفًا واسعًا من المبدعين من أجيال مختلفة: من نبيل عيوش الذي ما زال يواصل مغامرته الفنية في تعرية المجتمع، إلى داوود أولاد السيد، ووجوهٍ شابة كـمعدان الغزواني وراندا معروفي وسناء عكرود، الذين ينقلون السينما المغربية إلى عوالم أكثر تجريبًا.

هذا التعدد في الأساليب والمدارس يُعبّر عن دينامية ثقافية مغربية ناضجة، لم تعد تبحث عن هوية ضائعة بقدر ما تصوغ هوية متجددة، تنتمي إلى العالم دون أن تتنكر لجذورها.

المهرجان، إذن، لم يكن ساحة تنافس، بل مختبرًا للرؤية: كيف يمكن للسينما أن تقول الحقيقة دون أن تفقد جمالها؟ وكيف يمكن للمخرج المغربي أن يترجم قلق الواقع بلغة الصورة لا بلغة الشعارات؟

المرأة المغربية في قلب المشهد

من اللافت أيضًا أن الدورة الخامسة والعشرين احتفت بقوة بالحضور النسائي، سواء في لجان التحكيم أو في جوائز الأداء والإخراج والسيناريو.

نسرين الراضي، ريم فوكليا، سناء عكرود، راندا معروفي، لبنى اليونسي… أسماء لم تعد استثناءً بل أصبحت ركيزة في صناعة الصورة المغربية.

وهذا التحول لا يُقرأ فقط كإشارة إلى تطور الممارسة الفنية، بل كعلامة على نضوج الوعي المجتمعي بدور المرأة في صياغة الجمال والمعنى داخل الحقل الثقافي.

من طنجة إلى العالم: حين تستعيد السينما المغربية لغتها

إن تتويج “البحر البعيد” ليس مجرد اعترافٍ بعمل فني، بل اعترافٌ بمسارٍ كامل تسلكه السينما المغربية نحو العالمية من بوابة الجودة والصدق الفني.

في هذا المعنى، يصبح البحر الذي في عنوان الفيلم رمزًا مزدوجًا: بحرٌ يعبره نور نحو المجهول، وبحرٌ آخر تعبره السينما المغربية نحو آفاق جديدة من الإبداع والتأمل.

في النهاية، ما أنجزه المركز السينمائي المغربي من خلال هذه الدورة هو إعادة الثقة في السينما الوطنية كمجالٍ للتفكير الجماعي في المغرب الذي نعيش والمغرب الذي نريد.

إنها لحظةٌ تؤكد أن الثقافة حين تُدار بعقلٍ مؤمنٍ بدورها، يمكنها أن تُنقذ الفن من الركود، والمجتمع من اللامبالاة.

spot_imgspot_img