في مهرجان مراكش، حيث تُختبر السينما في جوهرها باعتبارها مساحة للحوار بين الذاكرة والجماليات، جاءت المخرجة الروسية-الشيشانية فلادلينا ساندو لتقترح قراءة مختلفة للتاريخ: قراءة لا تستعير لغة الأرشيف، بل لغة الندبة التي لا تزال ساخنة تحت الجلد. فيلمها “Memory” لا يُقدَّم كعمل فني فقط، بل كصرخة ترفض دفن الحقيقة تحت طبقات الرواية الرسمية التي أعادت روسيا ما بعد التسعينيات إنتاجها ببرود.
ساندو لا تتحدث هنا كمخرجة تنقل قصة من الخارج؛ بل كشاهد نجَا من “الطفولة في دائرة العنف”. من هناك—من قلب الحرب الشيشانية—تبدأ الحكاية. تقول إنها لا تسعى لتفسير التاريخ بقدر ما ترغب في أن تمنح نفسها والعالم فرصة للحديث عنه من جديد، خارج القاموس السياسي الذي حوّل الحرب إلى “عملية خاصة ضد الإرهاب”. بالنسبة لها، كانت الحرب حربًا حقيقية… وكان العنف ممنهجًا، وكانت الذاكرة جماعية ومجروحة، ولم يكن هناك أي “تحرير” من شيء، بل تدمير لإنسان.
وهنا تتقدّم ساندو بفكرة محورية: الأطفال، باعتبارهم كائنات خارج القواعد وخارج القوالب، قادرون على إعادة بناء الصورة كما لم يتخيلها الكبار. ولهذا تستند في فيلمها على ذاكرة الطفولة، حيث لا يوجد ثقل الأيديولوجيا ولا تراتبية السرد. ذاكرة صافية، قاسية، لكنها صادقة.
ولأنها تُصرّ على الهروب من أي “تصنيف”، اختارت أن تمزج بين عوالم لا تجتمع عادة: موزارت إلى جانب Dr. Alban، وإنّيگما مع بيتهوفن. هذه التوليفة ليست عبثًا؛ إنها محاولة لاستعادة الحرية الفنية التي سُلبت من تاريخ بلادها. تقول إنها لم تسعَ لصنع “عالم واقعي”، بل “عالمها الخاص”… العالم الذي يسمح للفن بأن يقول ما منعه السياسي.
في هذا السياق، يتحوّل السؤال الجمالي إلى سؤال أخلاقي:
كيف يمكن للعالم أن يمنح هؤلاء الأطفال فرصة لحياة طبيعية؟ كيف يمكن للسينما أن تفتح نافذة نحو سلام لم يتحقق؟
فيلم “Memory”—كما تصفه ساندو—ليس مجرد عمل سينمائي، بل محاولة لتنظيم “المحادثة المؤجلة” حول جرح الشيشان، وحول العنف الذي أرادت الدولة الروسية إخفاءه خلف اللغة الرسمية.
في مراكش، المدينة التي تُبقي الذاكرة حيّة عبر صورها ورواياتها، وجدت ساندو المكان المثالي لطرح سؤالها الكبير:
هل نستطيع، بالفن وحده، أن نحمي ما تبقى من الحقيقة؟