أدراج عبارة «الحكم الذاتي الجدي» في تصريحات رسمية غربية عن النزاع في الصحراء لم يكن مجرد تغيير نحوي — بل إشارة سياسية لها تداعيات ميدانية ودبلوماسية. الإدارة الأمريكية وحلفاءٍ غربيين قد وصفوا في مناسبات متعددة مبادرة الحكم الذاتي المغربية بأنها «خطة جدية، قابلة للتطبيق ومصداقية»؛ وهذه اللغة تُستخدم الآن من قِبَل دول مؤثرة في مجلس الأمن وفي دوائر القرار الأوروبية. هذا لا يلغي أهمية الحفاظ على يقظة دبلوماسية؛ لأن ما يُكسب بلاغةً على مستوى الخطاب قد يطالبنا بمزيد من المصداقية العملية داخل البلاد.
ماذا تقول الوقائع الدولية مؤخراً؟
• الولايات المتحدة جددت دعمها للمقاربة المغربية ووصفت خطة الحكم الذاتي بأنها الحلّ العملي — ووضع التعبير “جاد/جدي” في قلب الرواية الدبلوماسية.
• بريطانيات وفرنسية وبلدان أوروبية أخرى انضمت إلى توصيف الخطة بأنها “مصداقية وجديرة بالنقاش”، ما يمنح الحراك الدبلوماسي المغربي زخمًا إضافيًا على مستوى الأمم والمؤسسات الدولية.
• المؤسسة الأممية (تقارير وأعمال مجلس الأمن/الجمعية العامة) تتابع الملف وتواصل العمل في إطارها، ما يعني أن أي تقدم يجب أن يقترن بتفاوض يراعي أُطر الأمم المتحدة وطبيعة الولاية السياسية والدبلوماسية.
قراءة تحليلية داخلية: مصداقية الحكم الذاتي تبدأ من الداخل
التركيز الدولي على وصف «الجدّية» لا يعني أن التعويل على الدعم الخارجي كافٍ. بل على العكس: استخدام العالم لعبارات مثل «جدي/مصداقي» يضع المغرب أمام اختبار داخلي مزدوج:
-
إظهار أن المشروع لا يُوظف فقط لأهداف دبلوماسية بل يترجم إلى تحسينات ملموسة في الحكم المحلي، الحقوق، التنمية والتمثيل في الأقاليم الجنوبية.
-
إدارة علاقات المصالح والمال والسلطة بحيث لا تُقلِّل من شرعية المشروع لدى الرأي العام الدولي والداخلي. هنا تقع أهمية إجراء إصلاحات مؤسساتية وقضائية وشفافية فعلية تعكس مصداقية الخطاب. (ملاحظة: ذكرُ “شبكات نفوذ” أو “لُّوبيات داخلية” يجب أن يُتعامل معه بحذر تحقيقياً؛ الدلالة تكفي دون توجيه اتهامات تسميمية علنية).
البوليساريو والجزائر: هل هناك تحوّل في الخطاب؟
ظهرت إشارات من بعض مكوّنات الجبهة أو خطابات وسطية تُشير إلى استعداد لمناقشة مقترحات تحت إشراف الأمم المتحدة (بحذر). هذا لا يعني قبولًا نهائيًا؛ بل قد يكون مناورة تفاوضية أو استجابة لضغوط إقليمية ودولية. المغرب بحاجة لقراءة متأنية: هل هذا تراجع في الخطاب أم لعبة زمن؟ وماذا يلزم من خطوات سياسية واقتصادية لامتصاص أي مناورة تهدف لإطالة النزاع؟
سيناريوهات محتملة — ما الذي يجب الاستعداد له؟
-
المسار الإيجابي (أفضل): دعم دولي أوسع للنسخة المغربية مع تفاوض تحت مظلة أممية يؤدي إلى صيغة حكم ذاتي موسعة مع ضمانات حقوقية وسياسية محلية.
-
المسار التفاوضي الطويل: دول تدعم الحكم الذاتي شرطيًا بمزيد من «السلامة الديمقراطية» داخل المغرب (مصداقية مؤسساتية، شفافية في إدارة الموارد المحلية، آليات تمثيلية).
-
المسار السلبي: محاولة خصوم خارجيين/داخليين استغلال أي ضعف داخلي لإعاقة التقدم الدبلوماسي أو تشويه الصورة الدولية للخطّة المغربية.
لكل سيناريو، المطلوب عمليًا: خطة تواصُل دولية واضحة + مشروع داخلي لإصلاح مؤسسي وتنمية متسارعة في الأقاليم الجنوبية + آلية شفافية ومساءلة اقتصادية وسياسية قابلة للعرض أمام المجتمع الدولي.
أسئلةٍ استقصائية يجب طرحها وإثارتها في التحقيقات الصحافية
-
ما هو محتوى أي وثائق أو مراسلات أميركية أو أوروبية تحمل هذا الوصف («جدي/مصداقي»)، وهل هنالك شروط أو ملاحظات مكتوبة تقيده؟
-
هل ثمّت مبادرات ملموسة لترسيخ الحكم المحلي في الصحراء (برامج تنمية، حكم محلي فعلي، حماية حقوق الأقليات) تفيد الرواية بأن الحكم الذاتي «جاد»؟ وما نتائجها؟
-
ما هي نقاط الخلاف الجوهرية المتبقية مع البوليساريو وكيف يمكن تحويلها إلى مواضع تفاوض قابلة للقياس (صيغة تمثيل محلي، ضمانات حقوقية، إشراف أممي محدد)؟
-
من هم اللاعبون الدوليون والإقليميون الجدد الذين غيّروا مواقفهم مؤخرًا ولماذا؟ وهل تغيّر موقفهم مبنيّ على مصالح اقتصادية أم استقرار إقليمي؟
-
ما هي مؤشرات الشفافية والمساءلة المحلية التي سيقبلها المجتمع الدولي كدليل على «جديّة» المشروع؟ وهل يمكن للمغرب تقديم خارطة طريق زمنية واضحة لهذا الغرض؟
مقاربة قضائية/مؤسساتية يجب أن تُعرض إعلاميًا
-
اقتراح لآلية وطنية مستقلة للتحقق من الشفافية في إنفاق الاستثمارات العمومية بالأقاليم الجنوبية (قابل للنشر مع تقارير مرحلية).
-
خارطة طريق لإصلاح التمثيل المحلي: انتخابات محلية شفافة، قوانين تعزز حكم المحليات، ومؤشرات قياس متابعة التنمية في 3 سنوات.
-
برنامج تواصل دولي موحّد: دفاتر موقف تُبرز إنجازات التنمية وحماية الحقوق ومؤشرات اقتصادية قابلة للتحقُّق.
توجيهات خطابية ودبلوماسية للمحتوى الصحافي (نبرة ومسار)
-
اتّخذ خطابًا بناءً ومرتكزًا على الحقائق: احتفل بأي دعم دولي لكن اطلب أدلة تنفيذية عملية.
-
لا تستخدم اتهامات غامضة؛ بدلًا منها اطلب تحقيقات وثائقية حول تأثير نفوذ مصالح خاصة على القرارات العامة (هذا يحقق مطلب الشفافية دون توجيه اتهام شخصي مباشر).
-
حافظ على وحدة الخطاب الوطني: التشديد على أن أي نقد داخلي يهدف إلى تقوية موقف الوطن في مواجهة الضغوط الخارجية.
اقتراح خطة متابعة صحافية عملية (قابلة للتنفيذ الآن)
-
ملف استقصائي من ثلاث مقالات: (1) مواقف دولية وأدلّتها الوثائقية؛ (2) واقع الحكم المحلي والتنمية بالأقاليم الجنوبية؛ (3) خارطة طريق مقترحة للمصداقية المحلية والدبلوماسية. (راجع تقارير الأمم / تقارير الأمن / بيانات سفراء).
-
مقابلات مع خبراء دوليين (ديبلوماسيون سابقون، باحثون بمعاهد سياسة خارجية) لشرح مدلولات وصف «جدي» دوليًا.
-
ملف بيانات: قوائم مشاريع استثمارية ومؤشرات تشغيل وتنمية بالأقاليم الجنوبية لنشرها كدليل على الإنجاز أو كدليل على الحاجة للإصلاح.
-
نشر سلسلة أسئلة مفتوحة موجهة للجهات الرسمية حول معايير «الجدية» التي تسند بها الدول دعمها للمقترح المغربي.
خاتمة — رسالة وطنية ومسؤولة
الفرصة الدبلوماسية المتاحة اليوم لا تعني أن القضية مُغلقة؛ بل تضع على عاتقنا واجب الاستجابة بروح وطنية ومسؤولة: تحويل كلّ توصيف خارجي إيجابي إلى إنجاز داخلي ملموس يضمن الأمن السياسي والاقتصادي للمملكة. علينا تحويل «الاعتراف بالجدية» إلى حقيقة محسوسة في المؤسسات والحقوق والتنمية. في هذا الاختبار، لا بد أن تكون الصحافة عامل تقوية ومساءلة بنّاء، لا مصدر تشويه أو تفخيم. والله، الوطن، الملك.
أهم المصادر الأساسية التي استندت إليها في هذا التحليل (للقراءة والمتابعة)
-
تقرير/خبر رويترز عن تأكيد الرئيس الأمريكي مجدداً دعم الخطة المغربية (Reuters). Reuters
-
تغطية AP عن إعلان بريطانيا دعم الخطة ووصفها بأنها “قابلة وذات مصداقية”. AP News
-
تقارير الأمم المتحدة (ملف الجمعية العامة/تقارير دورية عن الوضع). Documents de l’ONU
-
Security Council Report — مذكّرة شهرية عن وضع الصحراء والتموضع الدولي. Security Council Report
-
تحليل مؤسسي عن تحوّل السياسة الأمريكية منذ 2020 وتأثيره على الديناميات الإقليمية (Carnegie). Carnegie Endow