ذات صلة

أحدث المقالات

“المعلومة الخاطئة التي أغضبت تبون: لويزة حنون تكشف فشل الدولة الجزائرية”

في قراءة دقيقة للواقع الجزائري، تبدو تصريحات الأمينة العامة...

عزيز أوزوس يسطع في Visa For Music… الصوت المغربي الذي يربط الثقافات

في أجواء حماسية ملؤها الإيقاع والطاقة، تألّق الفنان المغربي...

جودي فوستر في مراكش: حين تروي السينما نفسها من داخل كائن عاش كل أدوارها

لم يكن حضور جودي فوستر في فقرة «محادثات» بالدورة 22 لمهرجان مراكش لحظة عابرة. كان أقرب إلى مشهد سينمائي يكتشف فيه الجمهور — وربما هي نفسها — تفاصيل كائن عاش وسط الضوء منذ كان عمره ثلاث سنوات، لكنه لم يبدأ في فهم فعل التمثيل إلا عند الثانية عشرة.

ما كشفته فوستر في مراكش لم يكن سيرة ذاتية تقليدية، بل تحليل ذاتي لتجربة وجودية استخدمت فيها الممثلة لغة صافية وصادمة أحياناً، لتفكك علاقتها بالمهنة وبالعالم.

1. حين يُنتزع الطفل من طفولته إلى الكاميرا

قالت فوستر بوضوح يكاد يكون قاسياً: «لم أختر أن أصبح ممثلة. الوظيفة اختيرت لي، قبل أن أتذكر أي شيء عن نفسي».
هنا تتجلى أول خيوط التحليل: المهنة لم تكن شغفاً في البداية، بل قَدَراً مُسلّطاً. طفلة تُطلب منها أن تبكي “مثل جدّها”، دون أن تعرف كيف. ما حدث بعد ذلك كان، حسب وصفها، «آلية بقاء»؛ تعلمت أن تُصبح كائناً عاطفياً رغم أنها بطبيعتها عقلانية، قارئة، تميل إلى التفكير أكثر مما تميل إلى التقمص.

هذا الاعتراف يفتح سؤالاً نقدياً أعمق: هل يولد الممثل أم يُصنع؟ وفوستر هنا تقول شيئاً خطيراً دون أن تنطق به مباشرة: أحياناً يُصنع الممثل تحت الضغط، فيكبر وهو يحاول فقط النجاة.

2. أن ترى نفسك من الداخل والخارج في آن واحد

واحدة من أجمل لحظات الحوار كانت عندما قالت: «عندما تبدأ العمل قبل أن تحصل حتى على ذكريات، لا تتعلم شيئاً سوى أن ترى نفسك من الداخل والخارج في آن واحد… وهذا في حد ذاته نعمة».

إنها لا تصف التمثيل فقط، بل تصف الحياة في الازدواج:
أن تكون أنت، وأن تكون صورة منك في الوقت نفسه.
أن تعيش، لكن أن تراقب عيشك.
أن يتحول الوعي الذاتي من أداة إلى عبء.

وهذا ما يجعل سؤالها المؤلم يبدو منطقياً: «لا أعرف إن كان هذا ما جعلني أكثر جنوناً… أم أكثر اتزاناً».

3. عشق السينما… وليس التمثيل

حين سُئلت عن سر استمرارها في الحماس بعد خمسين سنة من الأدوار، قالت بصفاء: «أحب السينما. هذا هو السر. لو كنت على جزيرة وحيدة، لن أفكر في التمثيل. لكنني سأشاهد الأفلام».

هذا الاعتراف يعيد تعريف علاقتها بالمهنة: فوستر ليست “فتاة المسرح” بالمعنى التقليدي، بل امرأة تؤمن بالسينما كفلسفة، كمرآة، كأرشيف للروح البشرية.
أما التمثيل فكان — ولا يزال — تحدياً، وليس راحة.

ولهذا لا تعمل كثيراً. تحتاج وقتاً طويلاً حتى تستعيد نفسها. تنتظر الدور الذي يضيف إليها شيئاً لا تتوقعه، لا ما تصر هي على اختياره.

4. البطولات الأنثوية وإرث الموجة النسوية الثانية

قالت:
«عندما كنت صغيرة، أردت أن يكون الفيلم عني. لم أرد أن أكون “أخت” أو “زوجة” أو “ابنة”. أردت أن أحمل الفيلم وحدي… كنت متأثرة بالنسوية الثانية».

هنا تظهر جودي فوستر كمشروع سينمائي قائم بذاته: طفلة-نجمة، امرأة تبني بطولتها الشخصية، ممثلة ترفض أن تكون كائناً تابعاً. وهي لا تخجل من وصف تلك المرحلة بالأنانية… لكنها تعتبرها أيضاً لحظة مقاومة.

في العمق، كان هذا ردّاً مبكراً على صناعة كانت تختزل المرأة في وظيفتها العاطفية.

5. لماذا لعبت أدوار الضحية طوال 30 سنة؟

واحدة من أكثر الاعترافات جرأة كانت قولها:
«لعبت الكثير من أدوار الضحية… ثلاثة عقود وأنا لا أعرف لماذا».

هذا الاعتراف يعكس وعيها المتأخر ببُنى تحتية غير مرئية تتحكم في اختيارات الممثلين، خصوصاً النساء:
السوق، النظرة الذكورية، الطلب الجماهيري، الحاجة إلى إثبات الذات، وربما الجروح الشخصية التي لا نعرفها.

وحين تتحدث فوستر عن “النظر في المرآة” في مرحلة النضج، فإنها تشير إلى قراءة نقدية لذاتها، لاستعادة السيطرة على خياراتها.

6. “تاكسي درايفر”: اللحظة التي فهمت فيها التمثيل

تروي فوستر كيف أخذها روبرت دي نيرو إلى تدريبات خاصة في المقاهي والفنادق. لكنها تفاجأت بأنه لم يكن يتحدث معها تقريباً، كان “باهتاً، داخل شخصيته”.
ثم جاء التحول.

في اللقاء الثالث، بدأت فوستر ترتجل.
حينها — في عمر الثانية عشرة — اكتشفت المعنى الحقيقي للتمثيل:
ليس قول الجملة وانتظار الرد.
بل ملء الشخصية بالحياة.
أن تأتي “بشيء إلى الطاولة”.

تقول:
«عدت إلى غرفتي عبر المصعد، غارقة في العرق، أضحك… وكنت أعرف: لقد تغيّرت».

هكذا يولد الفنان الحقيقي: بلحظة وعي، لا بسنوات من الدرس.

7. بين المهنة والحياة… أيهما اختارت؟

حين تقول فوستر: «لو كنت على جزيرة، آخر شيء قد أفعله هو التمثيل» فهي لا تعلن نفوراً من المهنة، بل تكشف الحقيقة العارية للتمثيل: إنه ليس ممارسة طبيعية للإنسان، بل مجهود روحي هائل. ولهذا تختار أدوارها بعناية، وتحتاج إلى سنوات من الصمت بين فيلم وآخر.

خلاصة نظرية: ما الذي قالته جودي فوستر فعلاً؟

بقراءة تحليلية، يمكن تلخيص رسائل جودي فوستر في مراكش كالتالي:

1. التمثيل ليس شغفاً بل تمريناً على النجاة.

2. أكبر تحدٍّ في حياة الممثل ليس أداء الأدوار، بل أداء الذات.

3. الأنثى في السينما ليست “دوراً” بل معركة هوية.

4. الهوس الحقيقي ليس بالكميرا… بل بالسينما كفكر.

5. الموهبة تُكتشف حين نتوقف عن انتظار الدور… ونبدأ بصنعه.

spot_imgspot_img