ذات صلة

أحدث المقالات

حين تضلّل الكاميرا الحقيقة: كيف شوّه بعض الإعلام العربي صورة “كان 2025” في المغرب؟

التضليل الإعلامي في تغطية كأس أمم إفريقيا بالمغرب: قراءة...

الرؤية السديدة للدبلوماسية الملكية الاقتصادية قاطرة للريادة الإفريقية

  تميزت المملكة المغربية في عهد جلالة الملك محمد السادس...

برنامج الأغذية العالمي يُكثف جهوده لإنقاذ أكثر من 200 آلاف متضرر بشرق الكونغو

ذكر برنامج الأغذية العالمي أنه يُكثف جهوده لتقديم مساعدات...

حين تتحوّل أدوات “الضبط” إلى أدوات موت: قراءة تحليلية في مقتل شاب مغربي بإسبانيا

لم تكن وفاة الشاب المغربي هيثم، البالغ من العمر 35 سنة، خلال تدخل للشرطة الوطنية الإسبانية في مدينة توريمولينوس، مجرد حادث عرضي يُضاف إلى سجل الأخبار العابرة، بل شكّلت لحظة كاشفة لأسئلة أعمق تتقاطع فيها السلطة، والعنصرية البنيوية، وحدود استعمال القوة باسم القانون. فالحادثة، بما راكمته من غضب واحتجاجات، تجاوزت بعدها الجنائي لتدخل مجال النقاش السياسي والأخلاقي حول معنى “الأمن” حين يُمارَس على أجساد المهاجرين.

من زاوية أولى، يفرض المشهد نفسه بقسوته: ثمانية عناصر أمنية، شاب أعزل داخل محل تجاري، مسدسا صعق كهربائي، ثلاث شحنات، وصوت صراخ مسجّل في فيديو يوثّق اللحظات الأخيرة. هنا، لا يعود السؤال تقنيًا حول الفولتات أو البروتوكولات، بقدر ما يصبح سؤالًا وجوديًا: متى يتحوّل التدخل الأمني من وسيلة للضبط إلى ممارسة للعنف غير القابل للتبرير؟ وأي تصور للإنسان يقف خلف قرار صعقه ثلاث مرات وهو مكبّل ومحاصر؟

الرواية الرسمية للشرطة، التي تتحدث عن “هيجان متقدم” و”ضرورة السيطرة”، تصطدم برواية العائلة وشهادات الفيديو، لتكشف فجوة مألوفة في قضايا مشابهة: فجوة بين خطاب المؤسسة الأمنية، وخبرة الضحايا وذويهم. هذه الفجوة ليست تفصيلاً، بل هي جزء من بنية أوسع تُنتج الشك، خاصة حين يكون الضحية مهاجرًا، والفاعل ممثلًا للسلطة. فهل كان هيثم خطرًا فعليًا يستدعي هذا المستوى من القوة؟ أم أن “الهيجان” توصيف فضفاض يُستعمل لتبرير تدخلات مفرطة بعد وقوع الكارثة؟

من منظور اجتماعي، لا يمكن فصل ما جرى عن السياق الأوسع لعلاقة الشرطة الأوروبية، ومنها الإسبانية، بالفئات المهاجرة. فحين تتكرر وفيات أشخاص من أصول مهاجرة خلال تدخلات أمنية في سنة واحدة، يصبح من المشروع التساؤل: هل نحن أمام حوادث معزولة، أم أمام نمط يعكس عنفًا مؤسسيا غير معلن؟ وهل يُنظر إلى أجساد المهاجرين كأجساد أقل حماية، وأكثر قابلية للتجريب الأمني؟

القانون الإسباني نفسه، وتحديدًا المادة الخامسة من القانون التنظيمي لسنة 1986، يضع استعمال مسدسات الصعق في خانة “الضرورة القصوى”. لكن مفهوم الضرورة يظل مطاطيًا، قابلًا للتأويل، خصوصًا في غياب آليات رقابة صارمة، وعدم إلزام عناصر الشرطة بحمل أجهزة إزالة الرجفان القلبي. هنا يبرز تناقض صارخ: تُستعمل أدوات قد تُفضي إلى الموت، دون توفير الوسائل الطبية العاجلة لإنقاذ الحياة. فهل يكفي القانون إذا لم يُترجَم إلى ثقافة مهنية تحمي الإنسان قبل حماية النظام؟

سياسيًا، يكتسب الحادث بعدًا إضافيًا مع دخول أحزاب وهيئات يسارية وحقوقية على الخط، وطرحها الصريح لفرضية الدوافع العنصرية. هذا الطرح، وإن كان حساسًا، لا يمكن إسقاطه بسهولة، خاصة حين تتعارض الفيديوهات مع الرواية الرسمية، وحين تتراكم حالات مشابهة دون محاسبة واضحة. فإلى أي حد تستطيع المؤسسات الأوروبية مواجهة شبح العنصرية داخل أجهزتها؟ وهل الشفافية القضائية قادرة فعلًا على استعادة ثقة فئات تشعر بأنها مستهدفة سلفًا؟

أما الاحتجاجات والشموع واللافتات التي كُتب عليها “قُتل هنا ظلمًا”، فهي ليست فقط تعبيرًا عن حزن، بل فعل مقاومة رمزية ضد النسيان والتطبيع مع العنف. إنها محاولة لإعادة إنسانية الضحية في مواجهة خطاب رسمي غالبًا ما يختزل الأفراد في “حالات” أو “ملفات”.

في النهاية، لا تطرح قضية هيثم سؤالًا عن إدانة فرد أو تبرئة آخر بقدر ما تفتح نقاشًا أوسع: كيف يمكن التوفيق بين الأمن وكرامة الإنسان؟ ومن يراقب من يملكون سلطة الصعق والتوقيف؟ وهل ستظل حياة المهاجر ثمنًا صامتًا لأخطاء بروتوكولية، أم أن هذه الحوادث ستكون نقطة تحول نحو مساءلة حقيقية؟

أسئلة تبقى مفتوحة، ليس فقط أمام القضاء الإسباني، بل أمام الضمير الأوروبي ذاته.

spot_imgspot_imgspot_imgspot_img