ذات صلة

أحدث المقالات

إعدام في جنين… حين يتحوّل الميدان إلى مساحة معلّقة خارج القانون

لم يكن تصريح مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة...

«ليلة القدر»… حين يستعيد الفيلم ذاكرة المغرب المنسية في زمن الحرب: قراءة في مشروع سينمائي يتجاوز الحكاية إلى مساءلة التاريخ

ليس «ليلة القدر» مجرد فيلم تاريخي يُعاد فيه تركيب أزياء الأربعينيات وديكورات باريس زمن الاحتلال النازي. إنه محاولة لإحياء جزء من ذاكرة مغربية – عربية ظلّت طويلًا على هامش السرديات الكبرى للحرب العالمية الثانية، وخصوصًا الدور غير المعلن الذي لعبته مؤسسة دينية — مسجد باريس — في حماية الهاربين من آلة الاضطهاد النازية.

هنا لا يقف الفيلم عند مستوى التوثيق البارد، بل يذهب إلى أبعد من ذلك: يسائل معنى الحماية في زمن الخوف، ومعنى الدين حين يتحوّل إلى ملاذ، ومعنى الإنسانية حين تُختبر على حدود السياسة والسلاح.

بين المغرب وفرنسا… جغرافيا مزدوجة تُعيد تركيب زمن مضطرب

اختيار مواقع التصوير بين المغرب وباريس ليس قرارًا تقنيًا فقط، بل هو جزء من التخييل الجغرافي للفيلم. فالمغرب، بمدنه العتيقة وأزقته التي ما تزال تحتفظ بنبض التاريخ، يمنح الفريق إمكانية إعادة خلق أجواء الأربعينيات كما لو أنها لم تغادر المكان. أما باريس، فليست مجرد خلفية حضرية، بل هي مركز الثقل السياسي الذي دارت حوله تحولات الاحتلال، والفضاء الذي احتضن مسجدًا لعب دورًا غير تقليدي في شبكة الحماية والتمويه.

هذا التوزيع في المواقع يبرز دينامية العمل، كما يفتح الباب أمام أسئلة أعمق:هل يمكن للسينما اليوم أن تعيد ما محته الذاكرة الاستعمارية؟ وهل يستطيع الفن المغربي أن يقدّم قراءة مغايرة للحرب العالمية الثانية بعيدًا عن الرواية الأوروبية الكلاسيكية؟

آدم بن محمد… العالم الذي يجد نفسه في مواجهة التاريخ

الشخصية المحورية، آدم بن محمد، ليست بطلاً نمطيًا. إنها شخصية من لحم ودم، عالم دين يجد نفسه — بحكم موقعه — على تخوم النفوذ الألماني، وتحت رقابة ضابط نازي لا يرى في الدين سوى مؤسسة يجب التحكم بها.

هنا يطرح الفيلم سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن لرجل دين أن يمارس إنسانيته حين يتحوّل المسجد إلى مساحة تفاوض مع القوة المحتلة؟

العلاقة التي تنشأ بين آدم والضابط الألماني ليست مجرد عنصر درامي، بل هي مدخل لقراءة توازنات دقيقة:
بين القناعة والخطر، بين الواجب الأخلاقي ومقتضيات النجاة، بين الدين بوصفه ملاذًا وبوصفه وسيلة ضغط.

إنتاج متعدد الطبقات… بين الذاكرة والتمثيل

يبرز في تصريحات المنتج أيوب المحجوب ومدير الإنتاج لحسن فارح وعيهما بأن الفيلم ليس مشروعًا ترفيهيًا. فهو يتطلب دقة في التفاصيل، من الأزياء إلى الإكسسوارات، ومن حركة الممثلين إلى إعادة بناء الإيقاع البصري لزمن لم يعد موجودًا إلا في الصور والأرشيف.

هذا المستوى من الاشتغال يُظهر محاولة جادة لتفادي الفخ المعتاد في الأفلام التاريخية:
الاكتفاء بإعادة التمثيل بدل إعادة الفهم.

فالعمل لا يقدّم الشخصيات بوصفها رموزًا سياسية، بل ككائنات بشرية تحمل مخاوفها وتناقضاتها، وتضطر لصناعة قرارات مصيرية في لحظة تاريخية غارقة في الغموض.

فيلم عن الحرب… لكن بروح إنسانية

ما يميّز «ليلة القدر» هو إصراره على الابتعاد عن المعالجة السياسية المباشرة. فالحرب هنا ليست خلفية ملتهبة فقط، بل هي امتحان أخلاقي يواجه البشر حين تنقلب القيم، وتصبح الحماية جريمة، والمساعدة مغامرة تهدد بالهلاك.

الفيلم، كما يبدو، يسعى إلى إحياء لحظة إنسانية مُعتمة في ذاكرة الحرب، عبر استعادة الدور الذي لعبته مؤسسات دينية وثقافية عربية ومسلمة في إنقاذ المستهدفين من السياسات النازية. وهي زاوية تُسهم في تفكيك الصورة النمطية حول علاقة الإسلام بالآخر، وتعيد النظر في مفهوم التضامن العابر للأديان والثقافات.

ما الذي يمكن أن يمثّله الفيلم في السياق المغربي؟

على المستوى الثقافي، يبدو «ليلة القدر» خطوة نحو إعادة دمج المغرب في السرد العالمي للحرب العالمية الثانية، ليس كأرض بعيدة على الهامش، بل كفاعل كان جزءًا من شبكة معقّدة من العلاقات الدينية والسياسية.

وعلى المستوى الاجتماعي، يطرح الفيلم سؤالًا حول قدرة السينما المغربية على استعادة الذاكرة وتوظيفها لإنتاج خطاب إنساني يواجه موجات التطرف وخطابات الكراهية.

أما على المستوى السياسي، فهو يعيد النظر في لحظة تاريخية تُجدّد النقاش حول دور المؤسسات الدينية، لا باعتبارها مرجعيات جامدة، بل بوصفها فاعلًا تاريخيًا كان له أثر حقيقي في حماية الإنسان بمعناه الشامل.

spot_imgspot_img