كان مقطع الفيديو القصير الذي ظهر فيه أحمد عطاف، وزير الدولة الجزائري المكلف بالخارجية، خلال قمة العشرين في جوهانسبورغ، كافياً ليشي بأن شيئاً كبيراً يحدث في الكواليس.
الرجل، وهو يتقدم نحو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بدا متوتراً، متجهماً، يلوّح بيديه كمن يحتج أو يلوم. لم يكن ذلك مجرد انفعال دبلوماسي عابر. واليوم، بعدما نُشرت الصيغة الرسمية للقرار 2797، صار واضحاً أن ذلك القلق الجزائري لم يكن بلا سبب.
شهر كامل من الانتظار… لماذا؟
تأخر نشر القرار الأممي لشهر كامل، وضعٌ غير معتاد في سياق نزاع يعرف بدقته الإجرائية وجمود توازناته. هذا التأخير لم يأت من فراغ. فمحاولة “تحجيم” بعض العبارات أو “تلطيفها” استمرت حتى بعد جلسة التصويت التي غابت عنها الجزائر طواعية. غير أن الموقع الرسمي للأمم المتحدة وضع في النهاية النقاط فوق الحروف، وأعلنها بوضوح: الحكم الذاتي هو أساس العملية السياسية، والأطراف المدعوّة للمفاوضات متعددة وليست اثنين.
من “الطرفين” إلى “الأطراف”… انقلاب لغوي، وتحول سياسي
ولعلّ اللحظة الأكثر دلالة في النص العربي للقرار، هي غياب العبارتين التقليديتين: طرفا النزاع أو الطرفان. عوض ذلك، استُعملت عبارة “الأطراف” 13 مرة. كلمة بسيطة، لكنها تحمل انقلاباً عميقاً في البنية القانونية للنزاع.
فهي توسيع واضح لدائرة المعنيين بالعملية السياسية لتشمل:
-
المغرب
-
البوليساريو
-
الجزائر
-
موريتانيا
وهذا التوسيع ينسف، عملياً، الرواية الجزائرية القديمة التي كانت تحاول وضع نفسها في مقعد “الجار المحايد”، ويحولها ــ لأول مرة وبشكل صريح ــ إلى طرف مباشر في النزاع.
وساطة الجزائر… مبادرة بلا أرضية
قبل نشر القرار بأيام قليلة، خرج عطاف في ندوة صحافية يوم 18 نونبر ليعلن أن الجزائر مستعدة للوساطة بين “الطرفين”، في خطوة قُدمت على أنها من “مسؤوليات الجزائر الإقليمية والدولية”. كانت محاولة واضحة لاستباق مضمون القرار، أو ربما لتعويمه.
لكن الرباط تجاهلت العرض فوراً. واليوم، مع نشر القرار 2797، يتضح السبب: لا يمكن لطرف في النزاع أن يكون وسيطاً. النص الأممي أسقط المبادرة الجزائرية من أساسها.
من ملف دولي إلى شأن جزائري داخلي؟
حين يصير البلد الذي يحتضن ويموّل ويوفر الحماية الدبلوماسية لقيادة البوليساريو طرفاً رسمياً في النزاع، تتغير الحسابات.
بل إن تطبيق مسار الحكم الذاتي، كما ورد في القرار، يحمل في طياته تحوّلاً أكثر عمقاً: المغرب سبق أن أوضح أن من يحق له العودة للمشاركة في تسيير الأقاليم الجنوبية هم من يرتبطون اجتماعياً وتاريخياً بالمنطقة، وفق إحصاء 1974 الإسباني. باقي المقيمين في تندوف من موريتانيا أو مالي أو الجزائر، رغم الروابط القبلية، مستبعدون تلقائياً.
هذا يعني أن آلافاً من “الجبهة” الذين لا يندرجون ضمن الإحصاء، سيجدون أنفسهم بلا أفق سياسي في الصحراء المغربية… وبلا سند دولي. وهنا تبرز الأسئلة القاسية:
ما مصيرهم؟
وأين سيتجهون؟
ومن سيُحمِّل مسؤولية وجودهم؟
الإجابة قد تكون واحدة: الجزائر.
المعركة القادمة: سحب الملف من اللجنة الرابعة
لأول مرة، يبدو أن الرباط تمهد لمسار استراتيجي جديد: سحب ملف الصحراء من اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي اللجنة المكلفة بالمناطق غير المتمتعة بالحكم الذاتي.
القرار 2797 يمنح المغرب قوة دفع إضافية من خلال الإشارة الواضحة إلى الدعم الواسع الذي يحظى به مقترح الحكم الذاتي منذ 2007.
ومن الناحية الإجرائية، الطريق هنا أسهل من مجلس الأمن: الجمعية العامة لا تعرف “الفيتو”، ويكفي الحصول على 97 صوتاً فقط. والرباط بدأت فعلاً توسيع دائرة دعمها داخل الأمم المتحدة، وهو ما ظهر خلال لقاءات ناصر بوريطة بنيويورك في شتنبر الماضي.
خطاب الملك… ترسيخ واقع جديد
خطاب الملك محمد السادس، الذي جاء مباشرة بعد صدور القرار، كان بمثابة تثبيت للمعادلة الجديدة:
-
ثلثا دول الأمم المتحدة يعتبرون الحكم الذاتي الإطار الوحيد للحل.
-
القوى الاقتصادية الكبرى تعترف بسيادة المغرب الاقتصادية على الأقاليم الجنوبية، وتدفع نحو الاستثمار فيها: الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، روسيا، إسبانيا، والاتحاد الأوروبي.
هذه ليست إشارات سياسية فحسب. إنها تغيير في ميزان القوى الدولي.
البوليساريو… مشكلة في حضن الجزائر
في حال مضيّ المسار الحالي إلى نهايته، فإن البوليساريو لن تبقى ــ سياسياً وقانونياً ــ “طرفاً” أمام المغرب، بل ستتحول إلى قضية جزائرية داخلية، لا تختلف في جوهرها عن حركات مسلحة في دول تحتضن جماعات انفصالية على أراضيها.
الأهم أن الولايات المتحدة، الداعم الأبرز للحكم الذاتي، باتت تتعامل رسمياً مع الجزائر باعتبارها الطرف المواجه للمغرب، كما يظهر في تصريحات كبار مسؤولي البيت الأبيض المعنيين بإفريقيا.
خاتمة: مرحلة جديدة، قواعد جديدة
القرار 2797 ليس مجرد رقم جديد في سلسلة قرارات مجلس الأمن. إنه نقطة انعطاف، وربما لحظة بداية لإعادة صياغة النزاع برمته:
-
الجزائر طرف رسمي.
-
البوليساريو في وضع هشّ يتجه نحو “المعضلة الداخلية”.
-
المغرب في موقع دبلوماسي قوي مدعوم من قوى كبرى.
-
والحكم الذاتي يتحول من “مقترح” إلى مرجعية أممية لأي حل.



