هناك لحظات في مسار أي مخرج تُشبه ما يسميه الفلاسفة بـ العودة إلى الأصل — ليس الأصل الذي يُعاد إنتاجه، بل الأصل الذي يُعاد اكتشافه. في «ميرا»، يبدو نور الدين الخماري كمن يسترجع اللغة التي نسي أنه يتقنها: لغة الصورة حين تُفكّر وحدها، بلا عكّازات السرد، بلا التبريرات التي تفرضها الصناعة، بلا ذلك الضجيج الذي يعلّق في حلق الفيلم إلى أن يفقد صفاءه.
من «نظرة» إلى «كازانيغرا» و«Burn Out»، ظل الخماري يتحرك داخل سؤال واحد:
كيف نرى الفرد وهو يُختبر داخل مجتمع يراقبه، يطوّقه، ويعيد تشكيل ملامحه؟
لكن «ميرا» لا يعيد طرح السؤال، بل يعيد تأسيسه. فهنا لا نعود أمام سينما تحكي، بل أمام سينما تتأمّل. السينما نفسها تُصبح موضوعًا للنظر، وكأن الخماري يجرّب صورةً أكثر تجردًا؛ صورة تعود إلى الحسّ الأول، حيث العين تفكّر قبل أن ينطق الفم، وحيث الضوء يصبح فكرة، والظل حُجّة.
وليس صدفة أن أول عرض للفيلم في المغرب، ضمن الدورة 22 لمهرجان مراكش، جاء بعد مروره في مسابقة أحد أهم المهرجانات الأوروبية (تالين – الليالي السوداء). فالخماري في «ميرا» لا يكلّم الجمهور المحلي فقط؛ إنه يخاطب مشاهداً عالمياً قادراً على قراءة ما بين المشهد والغياب، ما بين الإشارة وما تُخفيه.
ماضٍ لا يعود كزينة… بل كشرط لإدراك الحاضر
«ميرا» ليس فيلماً عن طفلة، بل عن الطفولة كمنظور. ومن خلال هذا المنظور، يستعيد الخماري صفاءه الأول.
لقد كان دائماً مخرجاً يراهن على العين أكثر من الجملة، لكن ضغوط الإنتاج جرّته، أحياناً، نحو السرد الذي يفسّر أكثر مما يلزم.
هنا، يعود إلى نقطة الصفر، حيث يصبح كل شيء رهيناً للصورة:
الإيقاع لا يُبنى على الحكاية، بل على الفراغات؛
المشهد لا يُبنى على الحدث، بل على التوتر بين السكون والحركة.
اختيار طفلة (صفاء ختامي) ليس اختياراً عاطفياً. إنه اختيار نظري. كما يقول دولوز:
“الطفل هو الكائن الأكثر استعداداً لاستقبال الصورة الخالصة.”
لأن الطفل لم يتورّط بعد في الأكاذيب الاجتماعية التي تشوّه البصر. ولذلك تصبح ميرا ليست شخصية داخل فيلم، بل أداة بصرية للتفكير. عيناها تشتغلان كعدستين بديلتين، تتيحان للمخرج أن يُعيد تعريف العلاقة بين الجسد والسلطة، بين الصمت والتأويل.
القفص: من الرمز إلى الجهاز البصري
القفص في «ميرا» ليس استعارة سهلة. إنه بنية كاملة.
-
على مستوى الكادر: الصورة نفسها تتحول إلى قفص حين يضيّق الخماري الإطار حول جسد الطفلة.
-
على مستوى الفعل: يد ميرا وهي تفتح باب القفص ليست فعلاً بسيطاً؛ إنها تمرين على المقاومة. اليد هنا تفكّر نيابة عن اللسان الممنوع من التفكير.
-
على مستوى المجتمع: كل محاولة للتحرّر تُقابل ببناء قفص جديد — كما لو أن البنية الاجتماعية لا تعيش إلا بإعادة إنتاج حدودها.
-
على مستوى الصوت: رفرفة الأجنحة هي النبرة الوحيدة التي تكسر سلطة الأصوات البشرية المليئة بالأحكام.
بهذا المعنى، القفص ليس عارضاً في الفيلم. إنه نص داخل النص، يكتب تفسيره الخاص للعنف الرمزي كما شرحه دوركهايم وبورديو:
عنف لا يضرب، بل يقيّد؛
لا يجرح، بل يعيد ترتيب الجسد داخل ما هو مسموح له أن يكونه.
الأداء النسائي… ثلاث مقاربات للسلطة
أداء صفاء ختامي، فاطمة عاطف، وزينب علجي ليس مجرد تمثيل؛ إنه جغرافيا رمزية.
-
ميرا (صفاء ختامي): جسد منخفض الحركة، عينان لا تتكلمان بل تُفكّكان العالم.
-
الجدة (فاطمة عاطف): ذاكرة مُتعبة تحمل حكمة بلا قدرة. امرأة تعرف، وتشهد، لكنها عاجزة عن كسر الدائرة.
-
الأستاذة لمياء (زينب علجي): خطاب حول التغيير محاصر بحدود اللعبة. النموذج الأكاديمي للسلطة النسائية التي لا تُسمع إلا إذا نطقت بما يريده النظام.
وهكذا لا تصبح ميرا بطلة بمفردها. إننا أمام ثلاث نساء، ثلاث مقاومات، ثلاث هويات، تتقاطع كلها عند نقطة واحدة:
كيف يمكن للجسد الأنثوي أن يتكلم حين يمنعه المجتمع من الكلام؟
القرية ليست ديكوراً… بل مختبرٌ اجتماعي
قد يبدو الفضاء جبلياً، محلياً، مغربياً إلى أقصى الحدود. لكن «ميرا» يرفض اختزال القرية في الفولكلور.
إنها هنا نسخة مصغّرة للعالم:
مكان تُختبر فيه حرية الفرد، وتُختبر فيه قدرة المجتمع على تقبّل المختلف.
الفيلم يلتقي مع سينما أمريكا اللاتينية التي تعاملت مع الطفولة كحاسة سياسية، ومع سينما آسيا الشرقية التي جعلت من الطفل مرآة للسلطة.
لكن الخماري يفعل ذلك مع الحفاظ على هوية المكان المغربي — بالأرض، بالضوء، بنبرة الصمت، باللغة غير المنطوقة.
مشهد انعتاق الطيور… حيث تقع الثورة في العين
في المشهد الأكثر شاعرية، تفتح ميرا باب القفص.
الكاميرا ثابتة.
لا موسيقى تملي التأويل.
الطيور تخرج.
ثم تعود الكاميرا إلى وجه الطفلة.
إنها لحظة استعاضة الوعي عن الحدث.
ما يهم ليس الطيران، بل تلك النظرة التي تكتشف أن الحرية ليست صورة تُقلّدها، بل إمكان يُعاد اختراعه داخلياً.
إنه مشهد دولوزي صريح:
الحدث ليس ما يقع في الحركة، بل ما يقع في الإدراك.
«ميرا»: العودة إلى السينما كفلسفة للحياة
في النهاية، «ميرا» ليس فيلماً عن البحث عن الحرية.
إنه فيلم عن كيفية رؤيتنا للحرية.
نور الدين الخماري لا يعود إلى الماضي، بل يعود إلى نفسه، إلى تلك اللحظة التي كانت فيها السينما بالنسبة له ليست صناعة ولا مهرجانات ولا أرقام، بل طريقة للنظر إلى العالم بجرأة طفل.
وبين عرضه العالمي في تالين وعرضه المغربي في مراكش، يقدم «ميرا» نموذجاً نادراً لسينما مغربية قادرة على أن:
-
تنفتح على العالم دون أن تمحو جذورها،
-
تطرح الأسئلة دون أن تسقط في الاستعراض الفكري،
-
وتعيد تعريف الهوية دون أن تخسر شاعريتها.



