في خضم التحولات الجيوسياسية العميقة التي يشهدها العالم، وتحت وطأة المعادلات الجديدة للطاقة، تلوح في الأفق بوادر نهاية وشيكة للغاز الجزائري داخل السوق الأوروبية. فواشنطن، التي لم تعد تكتفي بلعب دور الحكم في الصراع الدولي، باتت اليوم فاعلاً مباشراً يُعيد رسم خارطة الطاقة، مستخدمةً نفوذها السياسي والاقتصادي واللوجستي لإعادة تشكيل التحالفات على إيقاع شحنات الغاز الطبيعي المسال (LNG) الأمريكية.
الغاز كسلاح ناعم في يد واشنطن
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، اتخذت الولايات المتحدة من الغاز أداة استراتيجية لا تقلّ فاعلية عن الطائرات والدبابات. تحولت واشنطن إلى المورد الأول للغاز الطبيعي المسال لأوروبا، مستفيدة من الانهيار التدريجي للاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، ومن الارتباك الواضح في مواقف بعض الموردين التقليديين، وعلى رأسهم الجزائر.
بات واضحاً أن الغاز لم يعد مجرد سلعة، بل صار ورقة ضغط تُستخدم لتأديب الخصوم واحتواء الحلفاء المترددين. وخير دليل على ذلك، ما تتناقله مراكز التفكير الأمريكية عن توجه إدارة بايدن نحو “تقليص الاعتماد على مصادر طاقية من دول غير مستقرة أو ذات توجهات متذبذبة”، وهي صيغة دبلوماسية تشير بوضوح إلى الجزائر وإيران وفنزويلا.
الجزائر… من “ورقة رابحة” إلى “شريك غير موثوق”؟
لطالما راهنت الجزائر على موقعها كمورد استراتيجي للغاز نحو أوروبا، خصوصاً عبر خط “ميدغاز” الذي يربطها بإسبانيا، وخط أنابيب “ترانسميد” المتجه نحو إيطاليا. لكن رهانات الجزائر على ابتزاز أوروبا باستخدام الطاقة بدأت ترتدّ سلباً عليها. فقد عبّرت مصادر أوروبية رفيعة، في تقارير متعددة، عن “انزعاج” من تسييس الجزائر لعقود الغاز، في وقت يُنتظر فيه من الموردين أن يكونوا عامل استقرار لا ابتزاز.
التحولات الحاصلة في السوق العالمية للغاز، وتراجع الاستثمارات الأوروبية في المشاريع الجزائرية، بالإضافة إلى التقارب المتزايد بين واشنطن وأوروبا في ملف الطاقة، تضع الجزائر في موقف بالغ الحرج. أكثر من ذلك، أصبحت دول أوروبية كألمانيا وإيطاليا تتجه للاستثمار أكثر في الغاز الأمريكي، مستفيدة من مرونته وسرعة نقله وتكلفته المستقرة على المدى الطويل.
هل بدأت واشنطن فعلاً “إغلاق الصنبور” على الجزائر؟
البيانات الصادرة عن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية ومراكز الأبحاث مثل “Atlantic Council” تشير إلى أن الولايات المتحدة ضاعفت صادراتها من الغاز الطبيعي المسال نحو أوروبا بأكثر من 300% بين عامي 2021 و2024، على حساب روسيا والجزائر بالأساس. هذا التوجه لا يعني فقط إغراق السوق، بل توجيه رسائل مبطنة لخصوم واشنطن مفادها: “الطاقة ليست ملكاً لكم وحدكم”.
وفي هذا السياق، تعيش الجزائر عزلة متنامية في سوق الطاقة. فبعد أن كانت تراهن على السوق الإسبانية، اصطدمت بتوترات سياسية بسبب ملف الصحراء المغربية، الأمر الذي استغلته واشنطن لتعزيز حضورها في المنطقة الطاقية لإيبيريا. اليوم، الغاز الجزائري لم يعد يُعتبر أولوية لا في مدريد ولا في روما.
المغرب الرابح الأكبر في معادلة الطاقة الجديدة؟
في مقابل الانكماش الجزائري، يُسجل المغرب نقاطاً دبلوماسية واستراتيجية مهمة، خاصة بعد الاتفاق مع الولايات المتحدة على تطوير مشاريع في مجال الطاقة الخضراء وتخزين الغاز. كما أن الربط الغازي العكسي مع إسبانيا، وتعاون الرباط مع شركات عالمية في مجال استيراد الغاز المسال، جعله جزءًا من المعادلة الأوروبية، ولو بشكل غير مباشر.
كما أن الدعم الأمريكي المتزايد للموقف المغربي في ملف الصحراء يعكس تقارباً استراتيجياً شاملاً لا يقتصر فقط على الأمن والسياسة، بل يشمل أيضاً الطاقة، التي باتت اليوم عنصراً حاسماً في السيادة الوطنية والنفوذ الإقليمي.
هل نكتب فعلاً شهادة وفاة الغاز الجزائري في أوروبا؟
بين العقوبات غير المعلنة، والتحالفات المتغيرة، والتحولات المناخية التي تدفع أوروبا نحو الطاقة النظيفة، يبدو أن الغاز الجزائري يفقد تدريجياً قدرته على البقاء كلاعب حيوي في السوق الأوروبية. بل إن بعض المحللين يذهبون إلى القول إن “سلاح الطاقة الجزائري قد يتحول إلى عبء اقتصادي على الدولة”، خصوصاً مع تراجع الاستكشافات والاستثمارات الخارجية.
ويبقى السؤال المطروح: هل ستفهم الجزائر الرسالة قبل أن تُغلق الأبواب كلها في وجهها؟ أم أنها ستظل أسيرة خطاب شعبي داخلي يغذي الوهم ويغفل الحقائق الجيوسياسية الجديدة؟