في خرجة جديدة، لا تخلو من الصدمة والجرأة، عاد عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، إلى واجهة الخطاب السياسي المغربي، لكن هذه المرة، ليس بصفته زعيمًا لحزب معارض فحسب، بل كـ”شاهد من أهل النظام” يُطلق النار على كل شيء: على الحكومة، على الإدارة الترابية، وعلى آليات تنظيم الانتخابات، وحتى على مصداقية المسلسل الديمقراطي برمّته.
“أعوان السلطة يتوسّلون.. لا تصوّتوا للعدالة والتنمية”؟!
العبارة صادمة، غير مسبوقة، وربما خطيرة في تداعياتها. فحين يقول زعيم سياسي ورئيس حكومة سابق، إن أعوان السلطة “كانوا يرغبون المواطنين ويتوسّلون إليهم حتى لا يصوّتوا على حزب العدالة والتنمية”، فنحن لسنا أمام تصريح عابر، بل أمام اتهام صريح بتدخّل السلطة في هندسة نتائج الانتخابات.
لكن السؤال الجوهري هنا:
هل ما قاله بنكيران يُعبّر عن واقع فعلي؟ أم أنه يندرج ضمن خطاب المظلومية السياسية الذي يتقنه الحزب كلما تراجع في صناديق الاقتراع؟
ثم، ما موقع وزارة الداخلية من هذه الاتهامات؟ هل سنشهد فتح تحقيق علني؟ أم أن الصمت هو الردّ السياسي المعتاد حين يكون الاتهام مصدره “بنكيران لا غير”؟
حكومة “المونديال” أم “حكومة الملك”؟ من يُدبّر فعليًا مشروع 2030؟
ربما أكثر ما أثار الانتباه في تصريحات بنكيران، قوله إن “الحكومة التي ستدبّر 2030، هي حكومة جلالة الملك”، مضيفًا أن الأمر لا علاقة له بأخنوش أو فريقه.
تصريح يكشف بوضوح ما يسميه بعض المحللين “عودة النظام العمودي”، حيث لم تعد الحكومة فاعلًا تنفيذيًا ذا استقلالية واضحة، بل واجهة إدارية لتدبير مشاريع كبرى تُدار من دوائر سيادية.
لكن السؤال الأهم هنا:
إذا كانت حكومة 2030 ليست سوى منفّذًا، فما جدوى الانتخابات أصلًا؟ وهل نحن أمام استعراض ديمقراطي أم مسار حقيقي للتناوب؟
الماضي لا يموت: بنكيران يستحضر “البصري”.. ولكن بنسخة ناعمة
في لحظة نادرة من الصراحة المؤلمة، قال بنكيران: “نحن لا نريد العودة إلى عهد إدريس البصري، ولكن بعض الملامح بدأت تعود”.
كلام يحمل في طيّاته اعترافًا بأن التحكم لم ينتهِ، بل تغيّر شكله وأدواته.
فهل يعيش المغرب اليوم نوعًا من “التحكم الناعم”؟
أي دولة تُدار من الخلف، بواسطة آليات غير مرئية، وأدوار موزعة، حيث لا يُسجَّل أحد في سجلات القمع المباشر، ولكن يتم “تصريف النتائج” بهدوء؟
وهل يملك الفاعلون الحزبيون، بما فيهم بنكيران، القدرة أو الجرأة لكشف هذه البنية فعليًا؟ أم أن الجميع شريك في لعبة معروفة النتائج؟
“من دخل السياسة بالمال.. إما تاجر أو لص”
ربما أخطر ما نُقل عن بنكيران في هذا اللقاء السياسي قوله:
“الذي يدخل السياسة بالمال، لا يمكن أن يكون إلا تاجرًا أو لصًا”.
اتهام مباشر لخصمه السياسي عزيز أخنوش، دون تسميته، لكن مع تلميحات لا تخطئها الأذن.
فهل أصبح المال السياسي هو الفاعل الحقيقي في المغرب؟ وهل تحوّلت الانتخابات إلى سوق، تُشترى فيها الأصوات وتُباع فيها المبادئ؟
وهل يمكن الحديث عن شفافية انتخابية، حين يكون الطرف المنافس يملك إمكانيات لا تقارن؟
وأين هي مؤسسات الرقابة؟ من يحاسب؟ ومن يُسائل من؟
خطاب احتجاج؟ أم تكتيك انتخابي لاستعادة الشعبية؟
هنا يكمن المفترق الحقيقي في تحليل هذا الخطاب: هل بنكيران ينطق بالحقيقة ويُطلق “نداء استغاثة” لإنقاذ ما تبقى من المسار الديمقراطي؟ أم أن كل هذا لا يعدو أن يكون جزءًا من هندسة رمزية، هدفها تعبئة الأنصار، وتهيئة المناخ للعودة السياسية؟
ثم، لماذا تكرّر الخطاب ذاته مع كل هزيمة انتخابية؟
هل يُمكن لحزب العدالة والتنمية أن يواصل تأجيل نقده الذاتي، ويلجأ بدلًا من ذلك إلى تحميل “التحكم” مسؤولية كل تراجع؟
وإذا كانت الدولة متحكمة فعلًا، كما يقول بنكيران، لماذا قاد الحزب نفس الدولة لولايتين؟ ولماذا لم يواجه هذا التحكم حين كان في موقع القرار؟
في الختام: الديمقراطية المغربية إلى أين؟
تصريحات بنكيران ليست مجرد لحظة غضب أو انفعال سياسي. إنها تلويحة حمراء، تُحذّر من أن شيئًا خطيرًا يحدث في الخفاء، وربما على مرأى الجميع.
لكن هذه الصرخة لن تكون مفيدة إذا لم تُقابل بردّ فعلي من الدولة:
-
تحقيق شفاف في مزاعم الضغط الانتخابي
-
توضيح دور السلطة في هندسة السياسة العمومية
-
مساءلة المال السياسي وأدواته