في مستهل ولايتها، رفعت حكومة عزيز أخنوش شعارًا طموحًا: “خلق مليون منصب شغل خلال خمس سنوات”، وهو التزام بدا حينها عنوانًا لمرحلة اجتماعية جديدة تعيد الاعتبار للشباب ولفكرة الدولة الاجتماعية. لكن، وبعد مرور ثلاث سنوات من التدبير، تسلط الأرقام الرسمية الضوء على حقيقة مغايرة؛ تؤشر على فجوة مقلقة بين الخطاب السياسي وما يتيحه الواقع الاقتصادي.
فهل كانت الحكومة تدرك منذ البداية حجم الفجوة بين الطموح والإمكانيات؟ وهل وضعت خريطة طريق واضحة، أم أن الشعار كان أقرب إلى أداة انتخابية استُهلكت بسرعة؟
أرقام لا تطمئن: الطموح يصطدم بالواقع
خلال جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس المستشارين، كشف وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات، يونس السكوري، أن عدد مناصب الشغل المحدثة حتى الفصل الأول من سنة 2025 لا يتجاوز 350 ألف منصب، رقم قد يبدو أفضل من نتائج سنة 2024، لكنه يظل بعيدًا عن المتوسط السنوي المطلوب لبلوغ سقف المليون.
والأكثر من ذلك، أن 75 ألف منصب شغل فُقدت خلال نفس الفترة، ليصبح الرقم الصافي حوالي 280 ألف فقط. وهنا تُطرح أسئلة جوهرية:
هل يكفي هذا المعدل المتباطئ لتحقيق الهدف خلال السنتين المتبقيتين؟
وهل تمتلك الحكومة خطة استدراك حقيقية؟ أم أننا أمام انحدار تدريجي نحو “تناسي جماعي” لهذا الالتزام؟
خريطة تشغيل غير متوازنة… وأين الفلاحة؟
الوزير قدم توزيعًا قطاعيًا يثير ملاحظات جوهرية:
-
216 ألف منصب في قطاع الخدمات
-
80 ألفًا في الصناعة والصناعة التقليدية
-
50 ألفًا فقط في البناء والأشغال العمومية
-
غياب شبه تام للقطاع الفلاحي
الغياب اللافت للقطاع الفلاحي، رغم أنه مشغّل تقليدي واسع، يدفع للتساؤل:
هل هناك إعادة توجيه غير معلنة لأولويات التشغيل؟
وهل قررت الحكومة طي صفحة التشغيل الفلاحي لحساب قطاعات أخرى أكثر حضرية أو رسملة؟
وماذا عن مستقبل التشغيل في المناطق القروية التي ترتبط بشكل عضوي بالفلاحة؟
الجهات… الغائب الحاضر في سياسات التشغيل
في سياق يتحدث فيه الجميع عن الجهوية المتقدمة، يغيب كليًا البعد الجهوي في أرقام التشغيل. فلا معطيات حول مساهمة الجهات في خلق فرص الشغل، ولا عن التفاوتات بين الأقاليم، رغم أن التفاوت المجالي يمثل أحد جذور الأزمة الاجتماعية في المغرب.
ما دور المجالس الجهوية في تنزيل السياسات التشغيلية؟
وهل يتم إشراك الجهات فعليًا في تحديد الحاجيات القطاعية والمهنية؟
أم أن التشغيل ما زال ملفًا ممركزًا، تُدار أولوياته من الرباط، بعيدًا عن الديناميات المحلية؟
اعتراف رسمي… ولكن دون تقييم حقيقي
الوزير السكوري لم يتردد في الاعتراف بأن الأرقام “غير كافية”، مشيرًا إلى “وجود شغل ناقص واختلالات في التوازنات”. ورغم أن هذا الاعتراف مهم من حيث النبرة السياسية، إلا أنه يطرح سؤالًا أكبر:
هل تمت مراجعة فرضيات البداية؟
وهل خضع شعار “المليون منصب” لتقييم داخلي جاد بعد ثلاث سنوات؟
أم أن الآلة السياسية تستمر في الدفع بالشعار نفسه رغم تغير المعطيات الاقتصادية والاجتماعية؟
التعليم… الحلقة المفقودة في معادلة الشغل
من أخطر ما ورد في مداخلة الوزير أن 910 آلاف من أصل 1.6 مليون عاطل لا يملكون أي شهادة تعليمية أو تكوينية. رقم يعكس فشلًا ذريعًا للسياسات التعليمية منذ عقود.
ويُعمّق الصورة السوداوية، ما كشفه السكوري عن مغادرة 300 ألف تلميذ للمدرسة سنويًا، دون ولوج أي مسار بديل، نظرًا لكون التكوين المهني لا يسمح به إلا بعد سن 15 عامًا.
أليس من المفارقة أن يُترك آلاف الشباب دون أي تأهيل لمدة قد تصل إلى خمس سنوات؟
وأين هي البرامج الاجتماعية الموجهة لهذه الفئة؟
ألا يجدر بالدولة أن تعيد التفكير في هندسة التكوين المهني لتكون أكثر مرونة وتدرجًا؟
التكوين المهني… بين الطموح والعجز البنيوي
رغم إشادة الوزير بالمنظومة التكوينية في بعض التخصصات، كالمهن الصحية، فإن العرض التكويني للمنقطعين عن الدراسة لا يتجاوز 80 ألف مقعد، بينما تتجاوز الحاجة 900 ألف.
كما أن برنامج “التدرج المهني” الذي يوفر 100 ألف مقعد يبدو محاولة ترقيعية أمام حجم المعضلة.
هل يعقل أن تستمر منظومة التكوين بهذا العرض المحدود؟
وكيف يمكن أن نحقق “التقائية” بين التعليم والتكوين وسوق الشغل دون توسيع جذري في القدرات الاستيعابية؟
الوساطة في التشغيل… أرقام غائبة وفعالية مشكوك فيها
الوزير تحدث عن تخصيص “ميزانية مهمة” للوساطة في التشغيل، خصوصًا للفئات غير المتوفرة على شهادات. لكن لم يقدم أي أرقام حول الأثر الحقيقي لهذه الوساطة، مما يجعلنا أمام غموض في تقييم الأداء.
هل تم قياس فعالية هذه الوساطة؟
وهل هناك تنسيق فعلي بين مؤسسات الوساطة والقطاع الخاص؟
أم أن الوساطة تظل هي الأخرى مجرد آلية بيروقراطية تفتقر للنفس الميداني؟