ذات صلة

أحدث المقالات

اعترافات أوروبية بفلسطين: خطوة رمزية أم بداية لتحول استراتيجي؟

في مشهد بدا لوهلة تاريخياً، أعلنت فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ...

المغرب والصين: شراكة استراتيجية بين المصالح والرهانات الدولية

من المقرر أن يقوم ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية...

المغرب وإسرائيل بعد “قمة قطر”: نهاية الطريق أم مرحلة مراجعة استراتيجية؟

فتحت القمة العربية الإسلامية الطارئة التي انعقدت بالدوحة سجالًا...

اعترافات أوروبية بفلسطين: خطوة رمزية أم بداية لتحول استراتيجي؟

في مشهد بدا لوهلة تاريخياً، أعلنت فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وموناكو وأندورا اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، وذلك بعد يوم واحد فقط من قرارات مماثلة اتخذتها بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال. هذه الموجة المتلاحقة من الاعترافات، والتي جاءت خلال مؤتمر “حل الدولتين” المنعقد في الأمم المتحدة بنيويورك، أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة النقاش الدولي بعد أن كادت تختفي وسط ضجيج الحروب والأزمات.

لكن ما بين التصفيق داخل قاعة الأمم المتحدة وبين الدماء التي تسيل في غزة منذ ما يقارب العامين، يظل السؤال الجوهري: هل الاعتراف وحده كافٍ لإحداث تغيير حقيقي على الأرض، أم أنه مجرد خطوة رمزية لتسكين ضمير غربي مثقل بصور المجازر؟

رمزية بلا أدوات ضغط

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن أن بلاده لم تعد قادرة على تأجيل الاعتراف بفلسطين، محمّلاً المجتمع الدولي مسؤولية الفشل في تحقيق السلام. كلام مؤثر، لكنه يبقى في حدود الخطاب السياسي، إذ لم يرافقه أي إعلان عن إجراءات عملية تضغط على إسرائيل أو تحدّ من جرائمها.

ما قيمة الاعتراف إذا كانت إسرائيل قادرة على التوسع الاستيطاني بلا رادع؟ وما جدوى قرار لا يتبعه تحرك دبلوماسي أو اقتصادي يعيد التوازن المفقود في العملية السياسية؟

الاعتراف كمسكّن للشارع الأوروبي

لا يمكن إغفال أن هذه الخطوات جاءت تحت ضغط الشارع الغربي، حيث شهدت عدة مدن أوروبية مظاهرات صاخبة ضد “الإبادة في غزة”، فيما رفعت بلديات فرنسية الأعلام الفلسطينية على مبانيها. الاعتراف إذن قد يكون موجهاً بقدر كبير إلى الداخل الأوروبي، كخطوة لامتصاص الغضب الشعبي، أكثر من كونه التزاماً استراتيجياً بتغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط.

فلسطين الممزقة: غياب الوحدة الوطنية

الاعتراف الأوروبي ترافق مع إقصاء واضح لحركة حماس من أي معادلة مستقبلية، وتأكيد على أن السلطة الفلسطينية هي الشريك الوحيد في مشروع الدولة. لكن هل يمكن إقامة دولة فلسطينية على أرض منقسمة وممزقة بين غزة والضفة؟ أليست هذه الوصفة تكريساً للانقسام بدلاً من تجاوزه؟ الغرب يريد دولة “على مقاسه”، منزوعَة المقاومة، فيما يظل الاحتلال قائماً والحصار مطبقاً.

إسرائيل في وضع هجومي لا دفاعي

ردّ إسرائيل جاء سريعاً: “لا دولة فلسطينية”. بل إن بعض الوزراء الإسرائيليين دعوا إلى ضم الضفة الغربية بالكامل. هذه المواقف تكشف أن الاعتراف الأوروبي لم يُترجم إلى ورقة ضغط، بل قوبل بمزيد من التشدد الإسرائيلي. المفارقة أن الاعترافات، في غياب إجراءات ملموسة، قد تدفع إسرائيل إلى مزيد من التصعيد بدل التراجع.

أوروبا بين واشنطن والبحث عن دور

التحرك الفرنسي والأوروبي يُقرأ أيضاً في سياق محاولة استعادة دور مفقود في الشرق الأوسط. فغياب الولايات المتحدة وإسرائيل عن الجلسة كشف حدود النفوذ الأوروبي. أوروبا تريد أن تقول إنها موجودة، لكنها تدرك أن أي خطوة لن تتحقق على الأرض من دون غطاء أمريكي. هل نحن أمام إرادة سياسية حقيقية، أم مجرد محاولة لإنقاذ ماء الوجه في لحظة تاريخية محرجة؟

خطر التحول إلى غطاء سياسي

من بين المخاوف المطروحة أن تتحول هذه الاعترافات إلى غطاء سياسي لتكريس واقع الاحتلال. دولة مُعترف بها دولياً لكن بلا سيادة، بلا جيش، بلا سيطرة على الحدود أو الموارد. دولة اسمية تُستخدم لإسكات الرأي العام، بينما الواقع اليومي للفلسطينيين يزداد قسوة.

خطوات لازمة لتجاوز الرمزية

إذا أرادت الدول الغربية أن تجعل اعترافها خطوة مفصلية لا مجرد شعار، فعليها أن تتبعه بإجراءات ملموسة:

  • عقوبات اقتصادية محددة مثل حظر استيراد منتجات المستوطنات وفرض قيود على الشركات المتورطة في الاحتلال.

  • ضغط دبلوماسي مباشر عبر استدعاء السفراء الإسرائيليين وخفض مستوى التمثيل السياسي مؤقتاً.

  • دعم مسار العدالة الدولية بتمكين المحكمة الجنائية الدولية من التحقيق في جرائم الحرب.

  • تمويل مؤسسات الدولة الفلسطينية وتعزيز استقلالها المالي والإداري.

  • حماية المجتمع المدني الفلسطيني عبر دعم منظماته الحقوقية والتعليمية والثقافية.

  • تحالف دولي أوسع داخل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لتوسيع رقعة الاعتراف وربطه بإجراءات إلزامية ضد الاحتلال.

الخلاصة: اعتراف بداية لا نهاية

الاعتراف بدولة فلسطين هو خطوة لا يمكن إنكار رمزيتها، لكنه سيظل بلا معنى إذا لم يترافق مع سياسات ضاغطة تُجبر إسرائيل على التراجع عن الاحتلال والضم. اللحظة التاريخية التي نعيشها تكشف أن الاعتراف قد يكون بداية طريق طويل، أو قد ينتهي كجملة إنشائية في أرشيف الأمم المتحدة.

القراءة الأعمق تقول: الاعتراف لا يجب أن يكون غاية في ذاته، بل وسيلة لتحريك عجلة السياسة الدولية نحو العدالة. وإلا فإنه قد يتحول من أداة لتحرير الفلسطينيين إلى ورقة لتجميل صورة الغرب أمام شعوبه.

spot_imgspot_img