شهدت الفترة الأخيرة انتشارًا واسعًا لتغريدات وتصريحات عدد من القادة السياسيين حول العالم، يؤكدون فيها أن عصر التجارة الحرة والعولمة الاقتصادية التقليدية قد وصل إلى نهايته.
وجاءت هذه المواقف انعكاسًا للتحولات المتسارعة في النظام التجاري العالمي، وتصاعد السياسات الحمائية بين الدول الكبرى.
وتعكس هذه التصريحات اتجاهًا جديدًا نحو إعادة تشكيل خريطة الاقتصاد العالمي وفق أولويات الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية لكل دولة.
تحرير التجارة.. ركن أساسي
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح تحرير التجارة ركنًا أساسيًا في الاقتصاد العالمي، حيث ساعد على نمو التبادل التجاري الدولي وانتشار سلاسل الإنتاج عبر الحدود.
ومع تأسيس منظمة التجارة العالمية WTO في 1995، تهيّأ العالم لنمو متسارع في التجارة الحرة.
وبرغم لك، فاليوم تُشير السياسات في الولايات المتحدة إلى ميل واضح نحو تقليص الاعتماد الكامل على التجارة الحرة كمبدأ مطلق، حيث أعلنت الولايات المتحدة أن الوقت ليس مناسبا لاتفاقيات التجارة الحرة التقليدية.
وفي سياق التحوّل العالمي عن مبادئ التجارة الحرّة واتّساع الممارسات الحمائية، تبنّت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن إعفاءً ضريبيًّا بقيمة 7,500 دولار يُمنح حصرا للسيارات الكهربائية التي تعتمد على مدخلات إنتاج أساسية مُصنَّعة داخل الولايات المتحدة.
وقد أثار هذا التوجّه الصناعي القائم على إعادة توطين سلاسل الإمداد ردود فعل غاضبة، تمثّلت في تهديدات فورية من الاتحاد الأوروبي ووزارة التجارة الصينية باتخاذ إجراءات انتقامية ودعم مضاد، بوصف القرار خروجًا واضحًا عن قواعد المنافسة الحرة.
وتؤكد أوروبا أن سياستها يجب أن تجمع بين الانفتاح والمقاومة للمخاطر الاقتصادية. وبما أن تحليلات متعددة تتحدّث عن نهاية عصر التجارة الحرة، فإننا نشهد مرحلة انتقالية عالمية تتجه نحو تجميع السياسات التجارية حول مفهوم الانفتاح المشروط بدلًا من الانفتاح المطلق فيما سبق.
أبرز تصريحات الصحف والقادة السياسيين: انعكاسات وتأثيرات على السياسات الاقتصادية العالمية
يستند موضوع الزاوية التحليلية لهذا الأسبوع إلى التصريحات السياسية الحديثة التي تكشف تحولات جديدة في السياسات الاقتصادية العالمية. ففي ظلّ المشهد العالمي المضطرب، حيث تتصاعد النزاعات الجيوسياسية والحروب وتنتشر الأوبئة، تبرز ضرورة ملحّة لإعادة تعريف مفهوم الأمن القومي ليشمل تحقيق المرونة الاقتصادية. فلم يعد النمو الاقتصادي وحده كافيا لضمان ازدهار الدول، بل أصبحت القدرة على الصمود أمام الصدمات الخارجية هي المعيار الجديد للقوة الوطنية. وهذا يحتم على كل دولة، بغض النظر عن حجمها، أن تعيد تقييم موقعها في النظام الدولي.
وفي تصريح صادر عن صحيفة واشنطن بوست Washington Post الأمريكية وصفت رسوم ترامب الجمركية بأنها تمثل نهاية حقبة التجارة الحرة في أمريكا الشمالية بعد أن غيّرت التجارة الحرة وجه أمريكا الشمالية على مدى ثلاثة عقود مضت.
فيما أشارت جريدة الجارديان البريطانية (The Guardian) إلى أن الاقتصاد العالمي يمر بتغييرات عميقة، حيث يزداد الوضع الدولي تعقيدًا وتقلبًا.
وقد حذر رئيس الوزراء الكندي مارك كارني قادة منطقة آسيا والمحيط الهادئ من أن الاقتصاد العالمي يمر بتغييرات عميقة، وذلك على هامش مشاركته في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ خلال (31 أكتوبر (تشرين الأول) – 1 نوفمبر (تشرين الثاني/ نونبر)) الماضي، في رسالة واضحة مفادها أن التجارة المفتوحة القائمة على القواعد لم تعد تعمل في اقتصاد عالمي يمر بواحدة من أعمق فترات التغيير منذ سقوط جدار برلين في عام 1989، مشيرا إلى تحول السياسة الكندية من اعتمادها التقليدي على التجارة مع الولايات المتحدة، إلى مضاعفة الصادرات غير الأمريكية خلال العقد المقبل، ولا سيما الصينية، وذلك بعد سنوات من التوتر بين البلدين شهدها عهد رئيس الوزراء الكندي السابق جاستن ترودو.
الموقف الصيني
في ذات السياق، ما زال الرئيس الصيني شي جين بينج يصعد دفاعه عن التجارة الحرة، مرحبًا بتعزيز التعاون مع الشركاء التجاريين، ومصرحًا بأنه كلما ازدادت الاضطرابات، ازدادت الحاجة إلى العمل معًا. فيما اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدم المشاركة في المحادثات، وذلك بعد التوصل إلى اتفاق مع الرئيس الصيني بشأن المعادن الأرضية النادرة والرسوم الجمركية.
وتتخذ أول رئيسة وزراء يابانية ساناي تاكايتشي موقفًا يسعى إلى إعادة العلاقات الثنائية مع الصين إلى مسارها الصحيح، وذلك على الرغم من الخلافات طويلة الأمد حول القضايا التاريخية والإقليمية بين البلدين.
هذا، ويُقدم الاتحاد الأوروبي شكلًا متطورًا من الحمائية عبر آليات السوق. فآلية ضبط حدود الكربون CBAM التي دخلت حيز التنفيذ بشكل تدريجي، ليست مجرد أداة بيئية، بل هي سياسة صناعية تستهدف حماية القدرة التنافسية للصناعات الأوروبية كثيفة الاستهلاك للطاقة. ويُظهر تقرير منظمة التجارة العالمية (2023) أن مثل هذه الإجراءات، رغم مشروعيتها البيئية المحتملة، تخلق تحديات قانونية وتجارية جديدة للنظام التجاري متعدد الأطراف وتهمش من فرصة النمو الاقتصادي لدى الدول النامية كجنوب إفريقيا المعتمدة بشكل ضعيف على إنتاجها المحلي.
ملامح التحول في مفهوم القوة الاقتصادية وسط الاضطرابات العالمية
في ظلّ التحولات الجيوسياسية المتسارعة، لم تعد التجارة الحرة تُعتبر خيارًا بديهيًّا أو هدفًا عالميًّا مشتركًا. بل أصبح الانفتاح الاقتصادي مشروطًا بالقدرة على الصمود أمام الأزمات، سواء كانت صحية أو أمنية أو سياسية.
وهذا التحول لا ينبع فقط من نظريات اقتصادية، بل من خطابات رسمية لقادة دول كبرى، تعكس قلقًا متزايدًا من هشاشة سلاسل التوريد العالمية، وتفضيل السيادة الاقتصادية على الكفاءة التجارية. فلم يعد بمقدور أي دولة الاعتماد الكلي على الأسواق الخارجية أو سلاسل التوريد العالمية الهشة بل أصبح ضرورة وحلما لكل دولة أن توفر احتياجها المحلي من ذاتها وعدم الاتكاء على دولة خارجية.
وقد سلطت جائحة كوفيد-19 الضوء على مدى هشاشة الاعتماد المفرط على الاستيراد في القطاعات الحيوية مثل الأدوية والمعدات الطبية.
كما كشفت الحرب في أوكرانيا مخاطر الاعتماد على مورد واحد للطاقة أو الغذاء، إذ يمكن أن يتحول هذا الاعتماد إلى عامل ضعف استراتيجي قد يحدد مصير الدول في أوقات الأزمات أو الحروب.
وبالإضافة إلى ذلك، تشير التقارير الدولية الحديثة، وعلى رأسها تقرير منظمة التجارة العالمية إلى أن العالم يشهد نهاية تدريجية لعصر التجارة الحرة المطلقة، مدفوعة بتصاعد الرسوم الجمركية المتبادلة بين القوى الكبرى، إلى جانب تزايد حالة عدم اليقين السياسي، وتفكك سلاسل التوريد التقليدية، وتراجع الاستثمار العالمي، مما يعكس تحولًا عميقًا في فلسفة الاقتصاد العالمي.
كما تم تعديل توقعات نمو تجارة السلع والخدمات بشكل سلبي، مع تأثيرات متفاوتة إقليميًّا، وانخفاض مساهمة أمريكا الشمالية في التجارة العالمية. وهذه المؤشرات تؤكد أن الانفتاح التجاري لم يعد هو القاعدة، بل أصبح مشروطًا ومحاطًا بقيود استراتيجية، مما يعكس تحولًا عميقًا في فلسفة الاقتصاد العالمي.



