ذات صلة

أحدث المقالات

الإدارة الذاتية في سوريا… ولماذا ترى في الحكم الذاتي المغربي “وصفة عالمية” لإطفاء النزاعات؟ قراءة معمّقة في خلفيات موقف غير مسبوق

في لحظة عربية تميل غالباً إلى الصمت حين يتعلق الأمر بالإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، خرج بدران جيا كرد، نائب الرئاسة المشتركة للإدارة، بتصريح لا يكتفي بكشف طبيعة التنسيق مع المغرب، بل يكشف—بهدوء الواثق—عن تحول أوسع في طريقة قراءة المنطقة لمعادلات القوة الجديدة، ولجدوى “الحلول الداخلية” داخل الدول بدل إعادة تفكيكها.

هذا التصريح، كما بدا خلال اللقاء الرقمي الذي شاركت فيه الصحيفة، لم يكن مجرد معلومة سياسية. كان أقرب إلى إعلان موقف فلسفي حول مصير الشرق الأوسط نفسه.

فجيا كرد، وهو أحد أبرز العقول السياسية في تجربة الإدارة الذاتية منذ نشأتها عام 2014، يرى أن العالم دخل مرحلة “لا تحتاج إلى دويلات جديدة”، وأن نماذج مثل الحكم الذاتي المغربي ليست فقط خياراً مغاربياً، بل جزءاً من رؤية دولية آخذة في التشكل: دول موحّدة، خرائط ثابتة، وتنوع يُدار داخل الحدود لا خارجها.

المغرب… من الصحراء إلى الشرق السوري: حضور سياسي هادئ لكن مؤثّر

لأول مرة، يؤكد جيا كرد أن الإدارة الذاتية تواصلت مع السلطات المغربية وعرضت رؤيتها للحل في سوريا، وأن الرباط قدّمت موقفاً وصفه بأنه “من أكثر المواقف العربية والدولية اتزاناً”.
موقف يختصره في ثلاث نقاط:

  1. الحل سياسي لا عسكري.

  2. وحدة سوريا خط أحمر.

  3. جميع المكوّنات—عرباً وأكراداً وسرياناً وآشوريين—جزء من الحل.

هذا التقييم، القادم من جهة لطالما وُضعت خارج السياق العربي الرسمي، ليس تفصيلاً عابراً.
بل هو إقرار بأن المغرب، الذي يواجه منذ نصف قرن نزاعاً مفتوحاً حول الصحراء، بات نموذجاً يُحتذى في إدارة التعقيدات الإثنية والقبلية والجغرافية. نموذج قائم على الحكم الذاتي الموسّع داخل السيادة الوطنية.

هنا تتقاطع فلسفة الرباط مع رؤية الإدارة الذاتية: لا تفكيك، لا انفصال، لا إعادة رسم خرائط. بل حلول داخلية تعترف بالمكوّنات وتمنحها سلطة إدارة شؤونها دون المسّ بوحدة الدول.

قرار مجلس الأمن… وقراءة الكرد له كـ”منعطف دولي”

عندما استحضر جيا كرد قرار مجلس الأمن 2797 الصادر في 31 أكتوبر حول مغربية الصحراء، لم يكن ذلك مجاملة سياسية. بل كان محاولة لربط ما يجري في شمال سوريا بما يجري في جنوب المغرب:

العالم يتحرك نحو منطق جديد:
الحفاظ على وحدة الدول مقابل تمكين المكوّنات عبر صيغ تشاركية. وهذا المنطق، كما يقول، هو بالضبط ما يجعل الحكم الذاتي المغربي “صمام أمان” يقطع الطريق أمام أي تهديدات عسكرية أو مغامرات انفصالية.

المقارنة لم تأتِ من فراغ. فالمنطقة—من دير الزور إلى الحدود الجنوبية للمملكة—تشترك في خط توتر واحد: مناطق غنية بالموارد وغارقة في هشاشة الأمن ومتاهات الجغرافيا السياسية.

حين يصبح الحكم الذاتي بديلاً عن الحرب

جيا كرد يذهب أبعد من الثناء السياسي. هو يقدّم قراءة نقدية لنصف قرن من النزاعات في الشرق الأوسط: المنطقة دفعت ثمن “إعادة رسم الخرائط”، من العراق المجزأ إلى سوريا المتآكلة.

ويقول بصراحة: العالم شبع دولاً جديدة. ما يحتاجه اليوم هو دولة عادلة داخل حدود ثابتة.

ولهذا يرى أن الحكم الذاتي المغربي ليس مجرد مشروع لحل نزاع، بل فلسفة سياسية تصلح للتصدير: حلول داخل البيت الوطني، لا خارجه.

الجملة التي توقف عندها الحاضرون طويلاً كانت: “نحن لا نطلب دولة ولا نسعى إلى تقسيم سوريا… نطلب أن تُدار المناطق من قبل شعوبها داخل دستور علماني يضمن حقوقها.”

هذه جملة تؤشر إلى تحوّل فكري داخل الإدارة الذاتية نفسها. تحوّل من خطاب “المظلومية التاريخية” إلى خطاب “الواقعية الدستورية”.

الإدارة الذاتية… ذلك الكيان الذي وُلد في العاصفة وبقي واقفاً

منذ 2014، وبين حرب على داعش وضغوط تركية وخصومة دمشقية وحصار اقتصادي خانق، تمكّنت الإدارة من بناء شبكة حكم محلية تشمل:

  • مجالس محلية منتخبة

  • منظومة تعليم

  • شبكات صحية

  • قوات أسايش

  • وقوة عسكرية لعبت الدور الأكبر في هزيمة داعش: قسد ورغم أنها غير معترَف بها رسمياً، إلا أن تقارير أممية ودولية تتعامل معها كواقع لا يمكن تجاهله.

لكن هذا الواقع هش:

  • ضغط عسكري تركي دائم

  • حصار اقتصادي من دمشق

  • معابر مغلقة مع العراق وتركيا

  • خلايا داعش تنشط بين الفينة والأخرى

  • وموارد مالية محدودة تحاصر مشروعاً كبيراً بحجم “كونفدرالية ديمقراطية”

وهنا تكمن المفارقة: كيان قوي عسكرياً، ضعيف اقتصادياً، موجود على الأرض لكنه غير موجود في القانون الدولي.

الدمج مع الجيش السوري… خطوة نحو شرعية دستورية أم فخ سياسي؟

في حديثه لـ”الصحيفة”، لم يتردّد جيا كرد في كشف تفاصيل جديدة حول دمج قوات سوريا الديمقراطية في هيكل الجيش السوري.
عملية قال إنها:

  • لن تمحو هوية “قسد”

  • ولن تحوّلها إلى ميليشيا تابعة

  • بل ستتم وفق صيغة تحفظ تنوعها ودورها وخبرتها الميدانية

الاتفاق الذي تجري صياغته بين دمشق والإدارة الذاتية، رغم تعثره، يمثّل للمسؤول الكردي “فرصة لوقف أي احتمال لعودة الحرب”، بشرط واحد:

أن تحترم دمشق ما تَعد به.

وهذه جملة تختصر تاريخاً كاملاً من الخيبات.

انفتاح على الرباط وأبوظبي… بحثاً عن شركاء يفهمون الفلسفة الجديدة

من بين أكثر اللحظات لفتاً للانتباه، تأكيد جيا كرد أن الإدارة منفتحة بقوة على المغرب والإمارات ودول عربية أخرى.
والسبب ليس سياسياً فقط، بل فكرياً:

  • هذه الدول تفهم فكرة “الحلول داخل الحدود”.

  • وتدعم صيغ الحكم اللامركزي التي لا تهدّد سيادة الدول.

  • وتبحث عن استقرار إقليمي طويل الأمد.

بهذا المعنى، لم يكن حديثه عن المغرب حدثاً بروتوكولياً بل جزءاً من إعادة رسم خريطة تحالفات أكثر عقلانية، وأقرب للواقع الجيوسياسي الجديد.

ما الذي يعنيه ذلك للمغرب؟

أن الرباط، التي راكمت خبرة في إدارة ملف الصحراء، باتت اليوم مرجعاً عربياً في قضايا الحكم الذاتي.
وأن نموذجها لم يعد موجهاً للداخل فقط، بل أصبح—بهدوء ودون ضجيج—مرجعاً لدول تبحث عن مخارج سياسية من نزاعات مستعصية.

والأهم: أن المغرب بات يُقرأ خارج حدوده كقوة سياسية قادرة على تقديم حلول لا مجرد مواقف.

خلاصة تحليلية

تصريحات جيا كرد ليست مجرد ثناء على المغرب. إنها جزء من تحول أوسع في المنطقة:

  • نهاية وهم “الخريطة الجديدة للشرق الأوسط”.

  • وبداية مرحلة “دول موحدة بأنظمة حكم متعددة”.

  • المغرب يدخل هذه المرحلة كنموذج ناجح.

  • والإدارة الذاتية ترى في هذا النموذج “مظلة فكرية” يمكن أن تعيد وصل ما انقطع في سوريا.

إنها لحظة نادرة تختلط فيها السياسة بالفلسفة… والحدود بالنماذج. لحظة تقول فيها جهة من أكثر مناطق الشرق الأوسط هشاشة: إن الحل ليس في رسم حدود جديدة، بل في إعادة تعريف من يدير تلك الحدود وكيف.

spot_imgspot_img