ذات صلة

أحدث المقالات

هشام حيضر… صناعة حضور سينمائي يتنامى بخطى ثابتة

اللقاء مع هشام حيضر، أو مجرد متابعة لمساره، تكشف...

«الأصوات المحطمة»: كيف يحوّل فيلم Broken Voices صمت الضحايا إلى مرايا السلطة والتواطؤ

من لحظةٍ مبكرة في مقابلة مهرجان مراكش، يضع المخرج أوندري بروفازنيك يده على جوهر فيلمه: الصمت. يقول بروفازنيك بصراحة موجعة عن تدفّق الرسائل إليه بعد العرض: «لا أعرف هؤلاء الأشخاص، لكنهم يراسلونني قائلين، شكرًا لهذا الفيلم، لأن هذا خاص جدًا بالنسبة لي… لأنه حدث لي».

العبارة قصيرة لكنها تكثّف وظيفتين متوازيتين للفيلم: الأولى كشفٌ شخصي لصدمة قديمة، والثانية استثارةٌ جماعية لذكريات مدفونة لدى آخرين.

الفيلم مبنٍّ «بشكل فضفاض» على فضيحة حقيقية سُجلت في تشيكيا عام 2007، حين أُدين قائد جوقة مشهور بارتكاب اعتداءات جنسية ضد فتاة قاصرة. بروفازنيك يقرّ بذلك ويختار لنفسه وزناً سردياً محدداً: «وجهة نظر المبتدئ»، طفلة تبلغ 13 عاماً — كارولينا — تُدخَل تدريجياً إلى عالمٍ يبدو منظمًا ومهيبًا، لكنه في داخله فاسد وسامّ. هذا الاختيار السردي—إبقاء الكاميرا مع العين الصغيرة التي لا تكاد تُدرك ما يجري—هو قلب الاستراتيجية الفنية للفيلم.

الصمت كمنهج سردي

يُفاجئ بروفازنيك بأن الفيلم «لا تُقال فيه أشياء كثيرة». ليس هنا فراغ بل قرار إخراجي واعٍ: الكشف عبر دلائل صغيرة، عبر لمحات وبنية صوتية ومشهدية تفتح أمام المشاهد الأبواب تباعًا بدلاً من تقديم محاضرة أخلاقية. هذا النهج يسمح باثنين من النتائج: الأولى، يعكس تجربة الضحية نفسها غير القادرة في كثير من الأحيان على تقنين حادثة لمرة واحدة أو وصفها بالكلمات حين تكون صغيرة؛ والثانية، يجعل الجمهور شريكًا في اكتشاف الحقيقة، وبالتالي شريكًا في الشعور بالذنب أو بالمسؤولية.

بروفازنيك يتذكر أنه كان في نفس عمر البطلة حين وقع الحدث المرجعي؛ هذه الازدواجية تمنحه حساسية سردية ويبرر ولادة فيلم يتعامل مع «الصمت» كموضوع وكمبدأ بصري وصوتي. الصمت هنا ليس غيابًا فقط بل مساحة مليئة بالإيحاءات: نظرات، أصوات جوقةٍ تُقمع، لحظات تمرّ كأنها لا تنتمي إلى الزمن الطبيعي للرواية.

بين سحر القائد وخداعه

في المقابلة وصف بروفازنيك قائد الجوقة بأنه «ساحر ومخادع»؛ هذه الصيغة تُعيد إلينا سكون الفعل المؤسسي: كيف تتحول الهيبة والموهبة إلى درعٍ يقي من المساءلة؟ كيف تستخدم السلطة الكاريزما لإسكات الشهود أو تشتيت الانتباه؟ الفيلم يضع المشاهد في مواجهة تلك التناقضات عبر بطلته التي تريد «أن تكون نخبـيّة جدًا»، أي أنها تتوق إلى الاعتراف والتميّز، فتتحول طموحها نقطة ضعف أمام استغلال متقن.

هنا يبرز بعدٌ أخلاقي: هل يُلام الجمهور والآباء والمؤسسات التي سمحت ببيئةٍ كسبت من حولها ثقةً عمياء؟ أم يكون التركيز على الفاعل الفرد؟ بروفازنيك يبدو واعيًا لامتداد المشكلة خارج إطار الجاني الفردي؛ لذلك يُقلّل من المنافذ التفسيرية المباشرة ويترك الأسئلة مطروحة: كيف تُبنى ثقافة الصمت؟ ومن يستفيد منها؟

الفن كمساحة للمساءلة والشفاء

أحد أهم تأثيرات الفيلم هو استعداء أصواتٍ كانت كاتمة لسنوات؛ بروفازنيك يؤكد أن الناس يرسلون له رسائل بأن الفيلم «كان جميلًا حقًا لأنهم قالواها بفضل الفيلم». هذه الجملة تكشف وظيفة بديهية للفن: ليس فقط عرض ما حدث، بل منح الناجين منبرًا آمنًا، لغةً مشتركة، ومعنىً لتجارب غياب الكلام. لكن هنا يطرح السؤال أيضاً: هل يكفي الفيلم لوجستيًا وأخلاقيًا لحماية هؤلاء الذين قرروا الكلام؟ هل ثمة تعاون مع مؤسسات دعم ضحايا؟ لستُ أتهم مخرجًا بفعلٍ ما، لكن أي تحقيق صحافي متعمق يجب أن يسأل عن آليات حماية الشهود بعد طرح العمل.

آليات السرد السينمائي: لماذا وجهة نظر المبتدئ؟

اختيار وجهة نظر فتاة صغيرة ليس مجرّد حيلة دراماتيكية؛ إنه قرار سياسي-فني. الطفل لا يعرف الرموز المؤسسية ولا قواعد التواطؤ؛ لذلك يصبح المشاهد ــــ عبر عيونها ــــ شاهداً على صناعة الفضيحة من الداخل. هذا يسمح للفيلم بتفكيك الأدوار: الآباء، القائد، زملات الجوقة، والمجتمع كله. كما أن عدم وعي البطلة بكل التفاصيل يفسح المجال لشرح ظاهرة «التأخر في الكلام» التي تحدث بعد سنوات، إذ يقول المخرج إن الضحايا «يتحدثون كثيرًا بعد سنوات عديدة» — ظاهرة نفسية وأخلاقية قيد الدراسة والتفكير.

مخاطر الاشتغال الفني على مصادر واقعية

كل عمل فني يستقـي من حقائق حقيقية يواجه اختبارًا أخلاقيًا: كيف نحترم ضحايا حقيقيين؟ هل هناك مخاطر لإعادة فتح جراح لم تُعالج؟ بروفازنيك يكشف صعوبة الاستماع إلى هذه القصص لكنه يعتزم تحويلها إلى سبب للحديث. الصحافة الفنية مطالبة هنا بقراءة دقيقة: تمثيل المسألة لا يعفي من السؤال عن العلاقة بين العمل وصانعيه وبين أصحاب التجربة الحقيقية. هل تم تشاورهم؟ هل وُفّر لهم فضاء أمني؟ هذه أسئلة وجيهة للتحقيق الصحافي.

خاتمة: من الصمت إلى المحاسبة

«الأصوات المحطمة» ليس فيلماً عن فضيحة مضت فحسب؛ إنه مرايا تُظهر كيف تُنتَج سلطات صغيرة داخل مؤسساتٍ تعمل باسم الفن والتربية والتميز. بروفازنيك اختار لغة السينما لتفكيك هذا التشابك، وترك الجمهور في موضع المراقب والناقد والفاعل. المهمة الصحافية الآن هي تتبع أثر هذا العمل خارج شاشة العرض: هل سيحول نقاشًا ثقافيًا وقانونيًا؟ هل سيحفز مؤسسات على مراجعة آليات حماية الأطفال والناشئات؟ أم سيبقى مجرد «عمل فني جميل» يبعث على التعاطف للحظة ثم ينقضي؟

الفيلم يفتح الباب؛ علينا أن ندخله — ليس فقط لنتأمل جمالياته، بل لنطالب بالمساءلة التي تمنع تكرار الصمت.

spot_imgspot_img