هناك شيء يحدث هذه الأيام حول مهرجان مراكش الدولي للفيلم. شيء لا يتعلق بالأفلام وحدها، ولا بالنجوم الذين يتوافدون على السجادة الحمراء، ولا بالشائعات الصغيرة التي تلتقطها الهواتف وتنتشر كالنار في الهشيم. هناك شيء أعمق… يشبه استيقاظًا ثقافيًا خفيفًا، لكنه واضح لمن يتأمل المشهد من بعيد.
منشور الصحافي جمال الخنوسي على فيسبوك لا يبدو، للوهلة الأولى، سوى انطباعات صادرة عن أحد الذين خبروا المهرجان من الداخل.
لكن حين تقرأه ببطء، تدرك أنه ليس مجرد إشادة بالتغطية الإعلامية. إنه شهادة على تحوّل، على انتقال تدريجي من نقاشات سطحية اعتدناها إلى لغة أخرى: لغة السينما نفسها.
1. حين يبدأ الجمهور في الحديث عن الصورة بدل كثرة الضجيج
لسنوات، كان المهرجان يعيش وسط زوبعة مصطنعة: أين يجلس فلان؟ لماذا لم تُدعَ فلانة؟ من التقط صورة مع نجم هوليودي؟ كان ذلك صخبًا يبتلع كل شيء.
اليوم، فجأة، أصبحنا نقرأ نقاشًا حول فيلم نيجيري مقابل آخر مغربي، ونستمع إلى آراء جريئة حول «عائشة التي لا تعرف الطيران»، ونشاهد حوارات على فيسبوك وتيك توك يختلف فيها الناس حول الإخراج، والتقطيع، والكتابة… أشياء لم تكن يومًا جزءًا من “الحديث العام”.
هل تغير المهرجان؟ أم تغيّرنا نحن؟ ربما الاثنين معًا.
2. ورشات النقد… أم أول خيط في بناء مدرسة جديدة؟
الخنوسي يلفت النظر إلى شيء لا يُذكر كثيرًا: ورشة النقد التي يشرف عليها شارل تيسون. قد يبدو الأمر تفصيلاً للمختصين، لكنه في الحقيقة حدث كبير.
للمرة الأولى، يفتح المهرجان أبوابه لطلبة وصحافيين وفضوليين كي يتعلموا كيف ينظرون، وكيف يُقرأ الفيلم، وكيف تُفكك الصورة. هذا ليس تدريبًا عابرًا—هذا بذرة مدرسة. مدرسة نقدية يمكن أن تغيّر طريقة تعاملنا مع السينما لسنوات قادمة.
ولعل أهم ما في الأمر هو أن هذا التكوين لا يجري في قاعات جامدة، بل وسط المهرجان نفسه: بين عروض، ونقاشات، ومخرجين يمرون بسرعة، وتجارب حيّة.
مشهدٌ لا يُخطئه من يعرف كيف تتشكل الحساسيات الفنية.
3. مكان الصحافي لا يقل أهمية عن مكان الناقد… ولكل منهما لغته
هناك رأي منتشر يضع الناقد في كفة والصحافي في كفة، وكأنهما خصمان. لكن الحقيقة أن المهرجان بحاجة لكليهما، كل بطريقته:
-
الصحافي يكتب عن الجو العام، عن الناس، عن الكواليس.
-
الناقد يحفر في الفيلم، يضعه في سياق تاريخي أو جمالي.
-
السينفيلي يقاوم الجميع بشغفه وذائقته المتطرفة.
-
والمتابع على شبكات التواصل يذكّرنا بأن السينما لا تعيش في الصالونات فقط.
هذه التعددية، بأخطائها وتوتراتها، هي التي منحت الدورة 22 طعمًا مختلفًا…
طعم المواجهة الفكرية لا الاستعراض الإعلامي.
4. حين يتحول المهرجان إلى فضاء يخلق نقاشًا لا يتحكم فيه
أجمل ما حدث هذا العام ليس ما خطط له المنظمون، بل ما لم يستطيعوا التحكّم فيه:ذلك النقاش الذي انفجر بين الناس، بين محبّي فيلم «الست» ومعارضيه، بين من رأى في الفيلم النيجيري مستقبل السينما الإفريقية، ومن رأى أن الفيلم المغربي كان الأجدر بالاهتمام.
هذه الفوضى الجميلة—وهذه كلمة لا أستخدمها عبثًا— هي مقياس النضج الحقيقي. المهرجانات لا تكبر حين تنظّم جيدًا، بل حين تصبح قادرة على إطلاق شرارة نقاش لا يهدأ.
5. سؤال المستقبل: ماذا نفعل بكل هذا الرصيد؟
إذا أردنا الاعتراف بصدق: الدورة 22 لم تكن فقط ناجحة. كانت نقطة تحول.
لكن التحول، مثل أي لحظة تاريخية صغيرة، يمكن أن يُهدر بسهولة إذا لم تُبن عليه خطوات واضحة:
-
تثبيت الورش النقدية وجعلها تقليدًا سنويًا.
-
منح النقاد الشباب مساحات أكبر، وربما مواقع رسمية داخل لجان معينة.
-
خلق جسور حقيقية مع نقاد أفارقة وعرب.
-
حماية النقاش السينمائي من العودة إلى الضجيج القديم.



