لا يظهر فيلم “My Father’s Shadow” بوصفه مجرد عمل سينمائي يقدّم حكاية طفلين في يوم استثنائي مع والدهما، بل كبيان شعوري وثقافي يقاوم النسيان، ويستدعي الزمن المنفلت من بين أصابع جيل كامل عاش على هامش تاريخ لم يُكتب كما ينبغي.
من خلال الحوار مع المخرج أكينولا ديفيز جونيور والمنتجة راشيل دارغافيل في مهرجان مراكش، يطفو سؤال جوهري:
هل السينما هنا وسيلة للحكي… أم وسيلة لاستعادة وطن؟
1. حين يصبح الفن تضحية شخصية
يتحدث ديفيز ببساطة جارحة:
السينما تأخذ وقتاً… راشيل لا ترى أطفالها، وأنا لا أرى عائلتي.
هذه الجملة، التي قد تمرّ عابرة في مقابلة عادية، تتحول هنا إلى مفتاح لقراءة المشروع:
العمل ليس ترفاً إبداعياً، بل مغامرة وجودية يضع فيها صانعو الفيلم حياتهم جانباً كي ينجزوا فيلماً “مهمّاً” بالنسبة لهم، لأطفالهم، ولنسخهم الصغيرة، ولبلدهم نيجيريا.
الفيلم إذن ليس مشروعاً فنياً فقط، بل فرض عين عاطفي.
2. ذاكرة شخصية تتحوّل إلى سرد وطني
انطلقت الشرارة من نص كتبه شقيق المخرج قبل أكثر من عشر سنوات.
نص قصير… لكنه كان بمثابة البذرة التي حملت أكبر من حجمها بكثير.
فأكينولا يتحدث عن “الصدمة الأولى” التي أصابته عند قراءة السيناريو، وعن تلك الرجّة التي تدفع الفنان إلى العودة إلى نفسه، وإلى الزمن الذي صاغه.
الفيلم يحكي يوماً واحداً يجمع طفلين بوالدهما—يوم واحد فقط—لكنه يلمّح إلى عمر كامل من الحرمان.
الأب الغائب ليس هنا مجرد شخصية؛ بل رمز، ظلّ، أثر…
ولعل اختيار “يوم واحد” هو محاولة لالتقاط الزمن الذي لم يُعش قط بسبب موت الأب الحقيقي للمخرج وهو صغير.
إنها معادلة بسيطة لكن عميقة:
اليوم الواحد يعادل عمراً كاملاً لم يكن.
3. نيجيريا 1993: الذاكرة السياسية التي لم تُصوَّر
لا يكتفي الفيلم بالذاكرة العائلية؛ بل يحمّلها طبقة سياسية كثيفة. 1993 ليست مجرد سنة في الأحداث… إنها سنة الخدعة الكبرى في تاريخ نيجيريا الحديثة: انتخابات كان يُفترض أن تنقل البلاد إلى الديمقراطية، قبل أن يجهضها النظام العسكري.
🟢Competition "My Father’s Shadow" : Director Akinola Davies Jr, and producer Rachel Dargavel. #Marrakechfestival
🟢 المسابقة الرسمية "ظلُّ والدي" : المخرج أكينولا ديفيز جونيور والمنتجة راشيل داركافيل. #مهرجان_مراكش
©️Omar_Hamdane pic.twitter.com/dUqew4D6PB
— Marrakech Film Festival (@Marrakech_Fest) December 4, 2025
السياسي الذي كان “أباً رمزياً” للبلد، كما وصفه ديفيز، يُستدعى في الفيلم كظلّ آخر… ظلّ لفكرة وطن لم يولد. بهذا يربط المخرج بين الأب الغائب داخل البيت والأب الوطني الذي لم يُتح له قيادة البلاد.
الفيلم إذن قراءة سياسية مغلّفة بذكريات طفولية.
4. لاغوس… المدينة التي لم تُصوَّر كما ينبغي
من أهم ما قاله أكينولا:
“لاغوس التي نعرفها… لم نرها في السينما قط.”
هذه جملة مفصلية.
لاغوس هنا ليست فضاءً جغرافياً بل كياناً مهمل الذاكرة.
الفيلم يعيد للمدينة كرامتها البصرية: الوجوه كما هي، الأصوات كما هي، الشوارع كما تُعاش لا كما تُصوَّر في الكليشيهات.
اختيار الأطفال كبوابة لرؤية المدينة لم يكن اختياراً فنياً فقط، بل أداة سياسية أيضاً: فالطفل لا يحمل أحكاماً مسبقة، فيرى العالم “حية، نابضة، وكاملة”. إنه استرجاع لبراءة النظر في بلد أثقلته السياسة.
5. السينما كجسر بين جيلين
المشهد الأكثر دلالة في كلامه كان حديثه عن العرض الأول في نيجيريا:
جيل كبير رأى لأول مرة صورته الحقيقية على الشاشة.
جيل شاب اكتشف تاريخاً لم يُدرّس له.
وما بينهما لحظة نادرة: تصالح بين زمنين.
هذا صحيح سينمائياً أكثر مما هو اجتماعياً:
الفيلم يصبح هنا وسيطاً تربوياً يعوّض ما فشلت فيه الدولة.
6. العائلة كمساحة قولٍ لم يتحقّق في الواقع
ينهي ديفيز حديثه بعبارة لافتة:
“ربما أشياء كثيرة تُقال في الفيلم داخل سياق العائلة… لا تُقال في الحياة.”



