في خضم مناخ سياسي يتسم بتصاعد التوترات وتراكم مؤشرات الاحتقان، بعث رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان التونسي السابق، راشد الغنوشي، رسالة جديدة من زنزانته بسجن المرناقية يوم الأربعاء 10 دجنبر. جاءت الرسالة في لحظة دقيقة تشهد فيها تونس جدلاً متنامياً حول وضع الحريات ومسار الحكم في عهد الرئيس قيس سعيد، وتنامي خطاب نقدي يتهم السلطة بالابتعاد عن مقتضيات التعددية وتوازن السلط.
رسالة سياسية أم مؤشر على تبدّل قواعد اللعبة؟
ما يلفت في مضمون رسالة الغنوشي ليس البعد العاطفي أو الرمزي فحسب، بل الطريقة التي حاول فيها إعادة رسم خريطة المعارضة من داخل السجن، والتمسك بأن مساحة «الحيوية الديمقراطية» لا تزال قائمة رغم ما يعتبره “إغلاقاً متزايداً للفضاء السياسي”.
فقد وجّه تحية واضحة لأسماء باتت في خط المواجهة مع السلطة، مثل أحمد نجيب الشابي، والعياشي الهمامي، وشيماء عيسى، معتبراً استمرار حضورهم العلني شكلاً من أشكال الصمود في لحظة تبدو فيها موازين القوى مختلة لصالح السلطة التنفيذية.
العياشي الهمامي: سجين سياسي أم رمز لممانعة يسارية؟
توقف الغنوشي عند وضعية المحامي العياشي الهمامي، الذي يمثل بالنسبة إليه أحد أبرز رموز اليسار “المُستهدف”—وفق وصفه—بسبب دفاعه عن المتهمين في قضايا ذات طابع سياسي.
هذا التوصيف يفتح الباب أمام أسئلة أكبر:
هل تحولت المحاكمات السياسية إلى أداة حسم في لحظة الانسداد السياسي؟
أم أنّ السلطة تسعى إلى خلق توازن ردعي يهدف إلى ضبط المجال العام؟
نجيب الشابي: اعتقال يعيد خلط الأوراق
الجزء الأوسع من رسالة الغنوشي خُصّص لأحمد نجيب الشابي، الذي يعد أحد أبرز الوجوه المعارضة بعد 2021. ويعتبر الغنوشي أن الشابي حقق اختراقاً نادراً حين نجح في جمع طيف سياسي متنوع داخل جبهة الخلاص الوطني، متجاوزاً إرث الانقسام الذي ميّز مرحلة ما بعد الثورة.
غير أنّ اعتقال الشابي، يوم 4 دجنبر، لتنفيذ حكم نهائي بالسجن 12 عاماً في قضية “التآمر” أعاد المشهد إلى نقطة الصفر. فقد خلّف الاعتقال صدى واسعاً لدى المعارضة ومنظمات حقوقية رأت فيه إشارة جديدة إلى «نهج متشدد» يفاقم هشاشة الوضع السياسي، ويطرح تساؤلات حول حدود استقلالية القضاء في هذا الظرف الدقيق.
تسارع الاعتقالات: من أحداث معزولة إلى نمط ثابت؟
منذ فبراير الماضي، توالت المداهمات والتوقيفات بحق سياسيين وحقوقيين ونقابيين وصحفيين، في سلسلة اعتبرتها المعارضة مؤشراً على تحول منهجي في إدارة المعارضين، بينما تؤكد السلطة أنها تطبق القانون على الجميع دون استثناء.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه:
هل نحن أمام تطبيق للقانون أم أمام قراءة سياسية للقانون تُستخدم لتصفية الخصوم؟
رسائل السجون: من الدفاع عن الذات إلى جزء من المعركة السياسية
المثير أن الرسائل الصادرة من داخل السجون لم تعد مجرد بيانات شخصية أو دفاعية، بل باتت جزءاً من المواجهة السياسية المفتوحة، تحمل خطاباً موجهاً للرأي العام المحلي والدولي، وتؤشر إلى أن المعركة حول مستقبل السلطة في تونس لم تعد محصورة في المؤسسات الرسمية، بل امتدت إلى فضاءات بديلة تسعى المعارضة لاستغلالها لكسر العزلة.
هل تقترب تونس من لحظة انعطاف؟
عندما يصف الغنوشي الوضع الحالي بـ«مرحلة التفكك التي تضرب مفاصل السلطة»، فهو لا يقدم مجرد قراءة ذاتية، بل يلمّح إلى أن منظومة الحكم تستنزف أدواتها تدريجياً: غياب الحوار الوطني، تآكل الثقة، تنامي الاعتقالات، واحتدام الصراع بين السلطة ومعارضيها.
يبقى السؤال المركزي—الذي لا تدّعي هذه القراءة حسمه—هو:
هل تمثل هذه المؤشرات بداية أفول مرحلة حكم فردي فقد أدوات السيطرة كما يقول الغنوشي؟
أم أن السلطة قادرة على إعادة ترتيب البيت الداخلي وفرض مسارها دون تنازلات؟
بين هذين السؤالين، تظل تونس تعيش لحظة ضبابية مفتوحة على كل الاحتمالات، حيث يتداخل القانوني بالسياسي، والمعارضة بالسجون، والخطاب الرسمي بالخطاب المضاد، دون أن تظهر بوادر حوار قادر على إعادة ترتيب المشهد أو إعادة الثقة للمؤسسات.