خلال العشرة أيام الثانية من شهر مايو (أيار/ ماي) 2023، كنت انتظر إشعارًا هامًا سوف يصلني عبر البريد الإلكتروني من مجلة الإيكونومست الشهيرة التي أتابع كل ما ينشر فيها بالفحص والتحليل نظرًا لطبيعة عملي (محرر صحفي).
وفي وقتٍ مبكرٍ جدًا من صباح يوم من أيام العشرية المشار إليها وكان طقس القاهرة يودع ربيعًا خفيفًا ويستقبل صيفًا يبدو أنه شديد الحرارة، وصل الإشعار المذكور.
وعلى الرغم من جدول أعمال هذا اليوم الضاغط، كان لزامًا قراءة موضوع الإشعار، والسبب أن هناك من ينتظر تلخيص محتواه و تذييل الملخص برأي، وهذا الشخص لا يستطيع أن ينتظر.
الموضوع الهام كان عبارة عن مقابلة صحفية مدتها 8 ساعات أجراها في أبريل (نيسان) عدد من محرري الإيكونومست المنتقين بعناية مع ثعلب الدولة والسياسة الأمريكية، الدكتور هنري كيسنجر، بمناسبة عيد ميلاده الـ100، وللعلم فهي آخر مقابلة صحفية إذ رحل الرجل في 29 نوفمبر (تشرين الثاني/ نونبر) من السنة ذاتها 2023.
الدكتور كيسنجر الذي ملئت تحليلاته وكتاباته ثم مشاركته في تخطيط وصناعة السياسات، العالم لأكثر من 70 سنة، كان حينها من الناحية الجسدية قد أصبح لا يستطيع الحركة بدون مساعدة من الآخرين، بينما ظلت رأس هذه الظاهرة العجوز تخالف الطبيعة الإنسانية إذ بقيت يقظه تعمل بنظام وانتظام، وذلك رأي كل من قابله.
بالتالي ذهب كيسنجر كل يوم إلى عمله في مكتبه الخاص بمنهاتن بانتظام حتى أسابيع قليلة من رحيله.
ومكتب الدكتور هنري، كان بمثابة قبلة يقصدها حجاج ومريدي السياسة الغربيين والشرقيين منذ خروجه من منصب مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي سنة 1977، تزامنًا مع فوز إدارة جيمي كارتر بالانتخابات الأمريكية حينها.
ويعد هنري كيسنجر من مطوري نظري الدبلوماسية التقليدية وصاحبها السياسي الألماني العتيد بسمارك الذي وضع الخطوط العريضة لسلام الـ100 سنة في أوروبا بعد إزاحة خطر نابليون سنة 1815.
هذا السلام شكل النظام العالمي لمدة قرن كامل.
سقوط نظام سلام الـ100 سنة أدى إلى الحرب العالمية الأولى سنة 1914، ثم تلاها ركود اقتصادي عظيم (1928 – 1932)، وبعد ذلك جاءت المأساة الأكبر على البشرية وهي الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945).
التقط كيسنجر الذي درس بعد الحرب العالمية الثانية ثمّ درّس بالجامعات في الخمسينيات والستينيات أفكار بسمارك، حيث شرح للطلبة الخطوط العريضة لهذه الأفكار وجدد فيها وأضاف إليها عنصري الصراع وتوازن القوى.
بينما لم يعترف العجوز الراحل ذي الأصول الألمانية، لا بالقانون الدولي ولا بالعلاقات الدولية كأساس لبناء السياسة الخارجية للدولة، فقط ظل يؤمن بنظرية الصراع (نشأة الصراع – إدارة الصراع – حل الصراع).
وبمناسبة تصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ربما يكون من المفيد العودة إلى هذه المقابلة الهامة والتي خاض فيها كيسنجر في موضوع الخلافات الأمريكية – الصينية، إذ بحسب الإيكونوميست فإنه في واشنطن يصرون على أن الصين تدبر أمورها لتحل محل الولايات المتحدة كقوة عالمية رائدة، بينما في بكين خلصوا إلى أن أمريكا ستفعل أي شيء لإخضاع الصين، مما أدى لتنامي العداء الذي ينذر بمواجهة غير متصورة حتى الآن بين القوى العظمى.
نحن على طريق المواجهة
قال كيسنجر عن الخلافات الأمريكية – الصينية، إن كلا الجانبين أقنع نفسه بأن الآخر يمثل خطرًا استراتيجيًا، وبالتالي نحن على طريق المواجهة بين القوى العظمى.
العزيز هنري – كما كان يلقبه الرئيس المصري الراحل أنور السادات – عبر بمقابلته عن قلقه من احتدام المنافسة بين أمريكا والصين على التفوق التكنولوجي والاقتصادي، وحتى مع دخول روسيا في فلك الصين وهيمنة الحرب على الجناح الشرقي لأوروبا، فإنه كان يخشى أن يفاقم الذكاء الاصطناعي هذا التنافس.
كيسنجر اعتبر أنه وفي جميع أنحاء العالم، يتغير ميزان القوى والأساس التكنولوجي للحرب بسرعة كبيرة وبطرق عديدة لدرجة أن الدول تفتقر إلى أي مبدأ ثابت يمكنها إرساء النظام عليه، وإذا لم تتمكن من إيجاد مبدأ، فقد تلجأ إلى القوة، معتقدًا أن العالم حاليًا في الوضع الكلاسيكي الذي سبق الحرب العالمية الأولى، حيث لم يكن لدى الجانبين المتحاربين هامش كبير من التنازل السياسي، وحيث يمكن لأي خلل في التوازن أي يؤدي إلى عواقب كارثية.
رأى أيضًا استاذ العلوم السياسية الراحل، أن مصير البشرية يعتمد على مدى قدرة واشنطن وبكين على التفاهم، بينما أشار إلى أن التقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص، لا يترك سوى 5 إلى 10 سنوات لإيجاد حل.
نصيحة للقادة الطامحين: حددوا مواقعكم
قدم كيسنجر في آخر مقابلاته الصحفية نصيحة للقادة الطامحين قائلًا لهم: “حددوا مواقعكم”، ومن هذا المنطلق تعد نقطة البداية لتجنب الحرب هي تحليل قلق الصين المتزايد، وعلى الرغم من سمعته بالتصالح مع حكومة بكين، أقر بأن العديد من المفكرين الصينيين يعتقدون أن أمريكا في طريقها إلى الانحدار، وأنهم لذلك ونتيجة لتطور تاريخي سوف يحلون محلها في نهاية المطاف.
كذلك أقر الرجل الذي كان ذهنه حادًا كالإبرة – طبقًا لما ذكره محرري الإيكونومست الذين التقوا به – أن القيادة الصينية تستاء من حديث صانعي السياسات الغربيين عن نظام عالمي قائم على القواعد، بينما ما يقصدونه في الواقع هو قواعد أمريكا ونظامها، بينما تشعر هذه القيادة بالإهانة مما تراه من صفقة متعالية يقدمها الغرب بمنح الصين امتيازات إذا أحسنت التصرف، فيما تعتقد – القيادة الصينية – أن تلك الامتيازات حقُ لهم كقوةٍ صاعدة.
قال كيسنجر أيضًا: “النظام الصيني أقرب إلى الكونفوشسية منه للماركسية، وهذا يُعلم القادة الصينيين بلوغ أقصى ما تستطيع بلادهم من قوة ويريدون أن يعترف بهم كحكام نهائيين بالنظام الدولي على مصالحهم، وأعتقد أن في وسعنا – الأمريكيين – منع نشوء هذا الوضع من خلال الجمع بين الدبلوماسية والقوة”.
تايوان.. التعامل الملح
من وجهة نظر هنري كيسنجر، يعد التعامل الأمريكي – الصيني بشأن تايوان هو الاختبار الملح، إذ بعدما تفاهم ريتشارد نيكسون، رئيس الولايات المتحدة، وما وتسي تونغ، رئيس الصين، في سنة 1972 حول وضع الجزيرة، لجأ دونالد ترامب خلال ولايته الأولى بهدف تعزيز صورته القوية لانتزاع تنازلات من الصين بشأن التجارة، فيما اتبعت إدارة جو بايدن في السياسة، نهج ترامب ولكن بخطاب ليبرالي.
واختلف كيسنجر مع مسار إدارتي ترامب وبايدن تجاه تايوان، لأن حربًا على غرار حرب أوكرانيا هناك ستدمر الجزيرة وتدمر الاقتصاد العالمي، كما أن الحرب قد تعيق الصين داخليًا، ويبقى أكبر مخاوف قادتها هو الاضطرابات الداخلية، مشددًا على أن تايوان يمكن أن تكون مجرد بداية من بين عدة مجالات تستطيع القوى العظمى أن تجد فيها أرضية مشتركة، وبالتالي تعزيز الاستقرار العالمي.
مخارج
اعتبر هنري كيسنجر أن من البديهي استجابة الولايات المتحدة لتحدي طموح الصين بسبر أغواره، كوسيلة لتحديد كيفية الحفاظ على التوازن بين القوتين، ومن الحلول الأخرى إقامة حوار دائم بين أمريكا والصين، فالأخيرة تسعى للعب دور عالمي على الأمريكيين تقييمه في كل مرحلة.
وطرح كيسنجر سؤالًا خاصًا بالقوة: هل من الممكن لأمريكا والصين أن تتعايشا دون خطر حرب شاملة بينهما؟، وحول ذلك قال: “كنت ومازلت أعتقد أن ذلك ممكنًا”، بينما أقر بأن النجاح يظل غير مضمون، ويتابع: “قد يفشل الأمر، ولذلك علينا أن نكون أقوياء عسكريًا بما يكفي لتحمل هذا الفشل”.
وفي ظل هذا المأزق واعتمادًا على خبرته، رأى الدكتور كيسنجر أن تبدأ واشنطن بالمبادرة بتهدئة التوتر ثم تبني تدريجيًا الثقة وعلاقات العمل، مطالبًا الرئيس الأمريكي بأن يقول لنظيره الصيني: “سيدي الرئيس، أكبر خطرين على السلام في الوقت الحالي هما نحن الاثنين، بمعنى أننا نملك القدرة على تدمير البشرية”، مرحجًا أن يبدأ الطرفين بعد ذلك ودون الإعلان رسميًا عن أي شيء إلى ضبط النفس.
للاطلاع على المقابلة الأصلية من هنا: https://linksshortcut.com/dNihc