لطالما يعتز الصحفيون بالأستاذ محمود السعدني، ولطالما عُرف الكاتب الراحل بـ الولد الشقي، ولما تعاقبت الأجيال على مهنة الصحافة جيلًا بعد الآخر، صارت عبارة الولد الشقي تسبقها كلمة عمنا، لتصبح عمنا الولد الشقي، تعبيرًا عن الاحترام والتوقير للرجل الذي كان قد بلغ من العمر والمكانة قدرًا وجب معه أن يناديه الآخرون ممن هم أدنى بالسن بـ العم.
ويزيد قدر ومكانة عمنا محمود السعدني عند أبناء الجيزة الذين تربى وعاش وسطهم ومشى معهم على النيل بشارع البحر الأعظم وجالس أدباء ومتعلمي زمانه على قهوة عبدالله (مقهى عبدالله) التي كان موقعها قريبًا من ميدان الجيزة، لكنها زالت مع التطور العمراني بالمدينة المركز للمحافظة التاريخية حيث حكم من جنوبها الملك مينا مصر الموحدة، كأول دولة مركزية بالتاريخ الإنساني.

كنت صغيرًا عندما وجدت في بيتنا كتب الأستاذ السعدني: مذكرات الولد الشقي، الصعلوكي في بلاد الملوكي، مصر من تاني، الطريق إلى زمش، وبلاد تشيل وبلاد تحط، وغيرها، ومع بلوغي المرحلة الثانوية أصبحت أحفظ جميع هذه الكتب عن ظهر قلب وأتذكر بعضًا مما جاء فيها وأنا أتجول بشوارع مدينة الجيزة كأحد أبنائها، وقبل أن أقرر الالتحاق بكلية الإعلام بغرض أن احترف مهنة المشاق، الصحافة.
مثلت كتب السعدني أيضًا بالنسبة لي وأحلام الصحافة تتشكل في رأسي ــ الذي ربما كان قد حصل على معلومات تفوق ما كانت في رؤوس من هم في سني بحكم قراءاتي المتشعبة ولكنها ظلت بالنهاية رأس مراهق ينتقل إلى الشباب ــ دراسة جدوى أو خارطة طريق لما يمكن أن يلاقيه المشتغلين بهذه المهنة، وللحق فإنها لعبت دورًا مهمًا في صبري على مشاكل الصحافة وتقبل أوضاعها للحد الذي صار معه البعض يتهمني بالبرود تجاه ما يقع من أحداث.
كذلك تلقفت من كتب وبعد ذلك من كتابات والمواد التليفزيونية لمحمود السعدني، الإشارات بعد الإشارات، عن فترة مهمة من تاريخ مصر والمنطقة العربية، وهي الفترة الواقعة ما بين الحرب العالمية الثانية وحتى الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، وهي إشارات لها ما يميزها باعتبارها صادرة عن شخص عاصر الأحداث ثم عاد للكتابة عنها بعدما هذبته الأيام وأثقلته التجارب وصداقة كبار القوم الرسميين منهم وغير الرسميين.
ومع انتشار الإنترنت، وإتاحة بعض المواد الفيلمية الخاصة بالبرامج التليفزيونية والندوات التي ظهر بها الأستاذ السعدني، وبجانب تحويل كتبه إلى كتب مسموعة يمكن سماعها في أي وقت وبالذات لمن قرأها لحد حفظها – كما ذكرت سابقًا – عاد إقبالي على البحث عن أعمال الرجل، وخصوصًا بالأوقات التي يكون الفرد بحاجة للراحة والتخلص من التعلق بالماديات والعودة للحكايات وشكل الريف وناس مصر وأحلام العرب في كلمات الولد الشقي الذي كنت قد قررت أن اسميه منذ 2005 – 2006، جدنا الولد الشقي – على أساس أنني من مواليد الثمانينيات وانتمي لجيل الألفية – بعدما رأيته بشارع البحر الأعظم قرب مكتبة الأسرة وهرولت لمصافحته وسألته عن صحته حينما لاحظت أنه يعاني سُعالًا حادًا وكانت المرة الأولى التي أقف فيها أمامه لحمًا ودمًا، وجاء رده: “عايزني أبطل الدخان يا ولا”، ولما أخبرته بأنني التحقت بكلية الإعلام وأنوي امتهان الصحافة، قال لي: “مالك يا ولا ومال مهنة الأفاعي دي”، ولقد كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي أرى فيها الرجل الذي حان توقيت غروبه في عام 2010 بعد مسيرة تركت سيرة طيبة أطول من العمر.
سعدنيات أكرم

قبل فترة بدأ الأستاذ أكرم السعدني، الصحفي بمؤسسة روز اليوسف، ونجل محمود السعدني في تناول هذه المسيرة من خلال ظهوره بموقع التواصل الاجتماعي، يوتيوب، ليحكي مغامرات جدنا الولد الشقي مع الملوك والرؤساء ووكلاء الوزراء وصغار الموظفين والفلاحين والعاطلين والصعاليك وحتى أرباب السوابق مختارًا عنوان سعدنيات لقناة اليوتيوب التي يبث عبرها الحلقات، وهنا أعود لأتذكر أن المرة الوحيدة التي شاهدت فيها الأستاذ السعدني وخلال حواري القصير معه والذي لم يتعدى دقائق، كان أكثر من سائق من سائقي سيارات الميكروباص (حافلات الأجرة) من طراز راما أو ترامكو الذين يعملون على خط الجيزة – المنيب يلقون عليه التحية بكل تقدير وتوقير، وهم للعلم ــ وكما يعرف البعض ــ أغلبهم من عتاة البلطجية بالجيزة (مع عدم التعميم عليهم أيضًا)، ولا يخافون في هذه الحياة الدنيا من البشر سوى القتلة المأجورين وضباط المباحث، وعلى النحو الذي يشير لكون جدنا السعدني حالة فريدة فعلًا، خرج من طين مصر وسار في حواريها وعرف كبارها وأثريائها ودود أرضها واستساغ لسانه ملحها.

وربما يكون من الطريف أيضًا عند الوصول لتلك النقطة، تسليط الضوء على واقعة ظريفة عندما وجه جدنا السعدني، الدعوة للسيد/ محمد أحمد المحجوب، رئيس وزراء السودان خلال الستينيات، لتناول الغداء ببيته بالجيزة وكان الغداء يومها سمك، ولما تأخر المحجوب عن الحضور حيث كان في اجتماع مع الرئيس جمال عبد الناصر، أكل السعدني والذين معه، ثم جاء المحجوب في إحدى السيارات الرسمية لبيت السعدني ولم يجد ما يأكله، وعندما قرر المسؤول السوداني الرفيع، الانصراف والعودة للفندق الذي يقيم فيه، ركب مع السعدني المرتدي جلبابًا سيارة الأخير الفولكس الخنفساء، وهي سيارة كان يصفها صاحبها نفسه بأنها عشة فراخ (مكان تربية الدواجن)، وعندما وصلوا للفندق سارع الحرس المعين نحو السيارة للاشتباه فيها وبمن داخلها ولم يقتنعوا بأن الجالس على يمين السائق هو ضيف البلاد المكلفين بحراسته، وأن السائق هو الصحفي الشهير محمود السعدني الذي ظل يضحك بعد هذا الموقف لمدة 3 أيام.
تابعت مع غيري حلقات الأستاذ أكرم السعدني وكأني تلميذ شاطر ذاكر المنهج جيدًا، ثم ذهب بعد ذلك لأحد مراكز الدروس الخصوصية لمراجعته مرة أخرى قبل موعد الامتحانات، فقد كنت أعلم كل ما سوف يقوله السعدني الابن بمجرد معرفتي لموضوع الحلقة، بينما كان الجديد بالنسبة لي هو حجم الإقبال – المشاهدات – التي حققتها هذه الحلقات، مما يعني أن المادة الجيدة لها مريديها وعلى خلاف ما يشيعه البعض من أن سوق الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أفسد الذوق وصار زبائنه لا يُقبلون سوى على البضائع التي يقف عليها الذباب، ويجب هنا كذلك التذكير بآخر ما قاله السعدني الأب قبل رحيله: “ما تخافوش على مصر.. لو عايز 5000 طبيب هتلاقي في مصر.. ولو عايز 10000 محاسب هتلاقي في مصر.. ولو عايز 20000 مهندس هتلاقي في مصر.. ولو عايز 50000 …… هتلاقي في مصر.. مصر فيها كم وفيها نوع”، وأضيف من عندي يا جدي السعدني: “ولو عايز 100 مليون ذوقهم حلو هتلاقي في مصر وفي الوطن العربي”.
دليل آخر على شعبية جدنا محمود السعدني، رغم مرور 15 عامًا على رحيله، وانقلاب أحوال الدنيا التي تركها رأسًا على عقب عدة مرات لحد أن العالم صار الآن يضع الاستراتيجيات لعصر ما بعد الهيمنة الأمريكية والنفط ووصولًا للذكاء الاصطناعي، هو كم التعليقات والإعجابات التي تحصدها بوستات ومقاطع الفيديو التي تنشرها صفحة الكاتب الساخر محمود السعدني بموقع فيسبوك، وبنوعٍ من الفضول أدخل لأتعرف على أصحاب هذه التعليقات باعتباري من مريدي السعدني – بلدياتي وابن كاري ورفيق طفولة وشباب من خلال كتبه – لأجدهم توليفة من الشيوخ والشباب وما بينهما، وأغلبهم يشيدون بالرجل ويدعون له بالرحمة والمغفرة.
ومع ذكر الدعاء للراحل بالرحمة والمغفرة، أجدني أتذكر ما حدث ذات ليلة من ليالي خريف 2011 وكانت مصر شبه مظلمة وشعبها تائه ومنقسم ما بين ثوار وفلول وحزب كنبه، بالإضافة للجماعة إياهم الذين كانوا فرحين فرحة سليم الأول عندما علم بنتيجة معركة مرج دابق واقتراب سقوط تاج العلاء في مفرق الشرق حيث صار الطريق من الشام إليها ممهدًا، كنت مع بعض الأصدقاء نوينا تناول العشاء عند الحاج جمال شلقامي، أحد أشهر بائعي الكباب (لحم الضأن المشوي) بالجيزة، ويعد السعدني من قدامى زبائنه، وكان وقتها لا يزال في مكانه القديم قرب منطقة أبو هريرة ولم يخرج بعد للمكان الجديد بشارع المحطة، وعندما شاهدني الحاج جمال شلقامي قال لي: “الصحافة هي اللي قالبه الدنيا”، وبالرغم من أن عمري وقتها كان 23 عامًا، لكنني كنت سريع البديهة سريع الردود وفورًا عكست له التعليق قائلًا: “إللي كان بيعرف يقلب الدنيا بصحيح، صاحبك المرحوم محمود السعدني”، وحينها شعرت بأن عيني الرجل قد نظرت للداخل لأعماق ذاكرته ليرد هو الآخر سريعًا: “وهو ده كان ماله.. ده كان بيقعد مع الرؤساء”، وبالرغم من الوجه المهموم الذي قابلنا به الحاج جمال شلقامي في بداية اللقاء، ولكن مع مجيء سيرة محمود السعدني الذي كان حينها مر العام الأول على رحيله، شاعت حالة من البهجة أنعشت الجميع وانطلقت الرحمات على روحه من القلوب قبل الحناجر.
صحافة تفقد وأبوها الأدب
عانى جدنا محمود السعدني من العمل بالصحافة والعمل العام أشد معاناة، فهو الذي سُجن في عهد عبد الناصر، وسجن في عهد السادات، وترك مصر وغادر بعد خروجه من سجن السادات ليطوف بالعالم العربي الذي ضاق به ولم يجد بُدًا حينئذ سوى عبور البحر المتوسط والتوجه لأوروبا، وهي فترة كان السعدني يتمنى فيها الموت – بحسب ما قال بنفسه – حتى ترتاح أسرته مما سببه لهم نتيجة مواقفه السياسية ولسانه الساخر الذي جعل الرئيس السادات يهدد بقطعه عندما التقى به في الكويت بحضور المهندس عثمان أحمد عثمان، حيث حاول المهندس عثمان التوسط بين الرئيس السادات والصحفي المارق السعدني، ولكنها محاولة لم تنجح على أي حال، إذ ظل السعدني يخشى العودة لمصر ولم يفعل سوى بعد رحيل السادات.
والسعدني والرئيس السادات، تعرفا لبعضها مبكرًا من خلال صديقهما المشترك، الكاتب الكبير، زكريا الحجاوي، وكان السعدني حينها في مقتبل العمر يتسكع في الحياة دون هدف، وكان الرئيس السادات ضابطًا مفصولًا من الجيش بعدما ثبتت عليه تهمة الاتصال بالألمان أعداء الإنجليز، حكام مصر الفعليين حتى بزوغ فجر 32 يوليو (تموز/ يوليوز) 1952.
وبالرغم من العلاقات القديمة بينهما، فإنهما افترقا بمجرد وفاة الرئيس عبد الناصر، إذ انضم السعدني لمعسكر مراكز القوى الذي أجهز عليهم السادات وألقى بهم في السجون، ثم أخذ العداء بُعدًا آخرًا بعد خروج السعدني من مصر واتصالاته مع ليبيا والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية ضمن ما عرف بـ جبهة الرفض، ومهاجمته لسياسات السادات من الخارج سواءًا عبر المجلة التي كان يتولى رئاسة تحريرها بلندن واسمها 23 يوليو أو عبر الصحف العربية الأخرى التي كان يكتب لها.
ومن أعماق تلك التجربة الشاقة، صك جدنا السعدني مصطلحًا جديدًا لمهنة الصحافة بالشرق العربي، هو مصطلح صحافة تفقد، والفقد هو الحرمان من الشيء أو ضياعه ويعني أيضًا الخسارة، ومن ثم رأى الرجل في العمل بالصحافة بالوطن العربي حرمانًا وخسارة، وقد قرر أن صحافة تفقد بالعالم العربي تعني أنه في بعض البلاد العربية من اليمن السعيد وحتى موريتانيا السعيدة، يُمكن أن تفقد وظيفتك، وفي بلاد ثانية تفقد حريتك، وفي بلاد ثالثة تفقد حياتك.
وعلى الصعيد المهني، يمكن القول بأن السعدني كتب تاريخ الفترة التي عاشها وفترات أخرى سابقة لم يعيشها بمنهجية المؤرخ وقلم الصحفي، وهو أسلوب وللأسف فقدته الصحافة العربية بعدما سيطر عليها الأسلوب الغربي في الكتابة، والأسلوب الغربي هو أسلوب خبري جاف مخالف للفن الصحفي العربي الذي يقال عنه إنه خرج من ظهر الأدب، وربما يكون في ذلك تفسيرًا لعزوف الجمهور عن قراءة الصحف والموضوعات الصحفية الإلكترونية بالعالم العربي باعتبار أن الصحفيون والكتاب خالفوا الطبيعة بتقليدهم الغربيون أصحاب القوالب الباردة والصلبة وأهملوا القوالب اللينة والدافئة الشبيهة بالحياة في الشرق حيث التسامح والمناخ الحار.
وحينما يعود الفرد في هذه الأيام لكتابات محمود السعدني وبعضٍ من رموز جيله والأجيال الأقدم التي نهلوا منها، يدرك فعلًا حجم الخسارة التي تعرضت لها مهنة الكتابة العربية، الصحفية منها والأدبية، بعدما صار المحتوى الصحفي والأدبي إما يسرد وقائع أو يوضح ويرتب للقارئ معلومات دونما أن يفتح أمامه آفاقًا لاستكشاف عوالم وافكارًا أخرى غير التي يقرأها، بل حتى صارت طريقة الكتابة والصياغة غير قادرة على جذب القراء ليكملوا قراءة الموضوعات للنهاية من غير أن يشعروا بمللٍ أو تعب لغياب الحبكة الأدبية والدرامية والبناء السردي وتوظيف المعلومات وتوزيعها واختيار الكلمات، وهذا يعد مؤشرًا خطيرًا على فقدان الكتاب الجدد لـ صنعة الكتابة، وهي صنعة تنمو بالممارسة والتمرس والاكتساب والتشجيع ولا تدرس بالجامعات والمعاهد ومراكز الدورات العلمية، ويعتبر واقع السينما المصرية والعربية التي في حاجة شديدة لكتاب سيناريو صنايعية أكثر من حاجتها لمنتجين وممثلين، إشارة مرور حمراء سوف تظل مضيئة ما لم تحل المشكلة.
كم يشعر فردٌ كأنا بالسعادة وقد تمكنت من الكتابة عن الأستاذ والأديب والجد، محمود السعدني، وأن أجد اسمي ذات يوم منشورًا إلى جوار اسمه في وسيلة إعلامية عربية تقرأ في المغرب العربي حيث يعيش ملايين العرب الذين أحبهم محمود السعدني.